التسوك في المسجد حال الصلاة مكروه عند المالكية وهو من المستقذرات
حكم التسوك في المسجد بعد إقامة الصلاة وقول المالكية في ذلك . من إعداد فضيلة الفقيه :عبدالله بن طاهر
الجواب والله الموفق للصواب:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد؛ فإن تنظيف الفم والأسنان من بقايا الطعام مطلوب على كل حال، وخصوصا بعد الأكل، وعند النوم والاستيقاظ، وعند الوضوء والصلاة، وفي كل حال يشعر فيها المسلم أنه في حاجة لتنظيف فمه وأسنانه، ولا يخفى ما في ذلك من فوائد صحية وقائية، ودينية تعبدية؛ قال القرافي: "يستاك قبل الوضوء ويتمضمض بعده [لِيَخْرُجَ الماءُ بما يَنْثُرُه](1) السِّوَاكُ، ولا يختص السواك بهذه الحالة؛ بل في الحالات التي يتغير فيها الفم؛ كالقيام من النوم، أو بتغيِير الفم لمرض أو وجع أو صمت كثير أو مأكول متغير"(2). وقال ابن عرفة: "والأظهر أنه سنة لدلالة الأحاديث على مثابرتهﷺ وإظهاره والأمر به"(3)؛ منها ما روى البخاري معلقا ووصله النسائي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول اللهﷺ: «السواكُ مَطْهَرة للفَم، مَرْضاة للرب»(4).
أما التسوك في المسجد فقد كرهه المالكية واعتبروه من إزالة المستقذرات، ومن الأذى الذي لا يليق بالمسجد مثل: المضمضة، وتقليم الأظفار، وحلق الشعر(5)؛ لأن المتسوك في المسجد لا يخلو من حالتين: إما أن يطرح ما أزاله من تنظيف أسنانه من القذر في المسجد وهذا لا يجوز شرعا؛ لوجوب صيانة المساجد من المستقذرات، وإما أن يبتلعه ويدخله لجوفه، وهذا أقبح من بقائه على أسنانه.
قال الإمام مالك -رضي الله عنه-: "لا أحب لأحد أن يتسوك في المسجد من أجل ما يخرج من فيه من السواك فيلقيه في المسجد، ولا أحب لأحد أن يتمضمض في المسجد"(6)؛ واستدل المالكية في ذلك بعدة أدلة منها:
1) ما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللهﷺ: «لولا أن أَشُقَّ على أُمَّتي لأمَرْتُهُم بالسواك مع كل صلاة» وفي رواية: «عند كل صلاة»، وفي رواية الموطأ: «مع كل وضوء»(7).
ووجه الاستدلال به أن قولهﷺ: «مع كل صلاة» محمول على الاستياك عند الوضوء بدليل رواية الموطأ، على غرار قوله تعالى في آية الوضوء: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ...}(8)؛ ولم يقل أحد من العلماء بوجوب الوضوء في المسجد؛ بل معناه يدل -باتفاق- على أن الوضوء خارج المسجد وكذلك السواك.
2) ما روى أبو داود والترمذي وصححه عن زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول اللهﷺ يقول: «لولا أن أشُق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، وكان زيد يشهد الصلوات في المسجد وسواكه على أُذُنِه موضع القلم من أُذن الكاتب، فكلَّما قام إلى الصلاة اسْتاكَ»(9).
وهذا لا يدل على التسوك في المسجد؛ بل إنه قد يستاك في بيته ثم يدخل المسجد للصلاة؛ بدليل ما روى الطبراني عن زيد بن خالد أيضا قال: «ما كان رسول اللهﷺ يخرج من بيته لشيء من الصلوات حتى يستاك»(10).
3) ما روى الإمام مسلم عن شُريح بن هانئ قال: «سألتُ عائشةَ: بأي شيء كان يَبْدَأُ رسول اللهﷺ إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك»(11).
قال القاضي عياض تعليقا على هذا الحديث: "وخَصَّ بذلك دخولَه بيته؛ لأنه مما لا يفعله ذوُو المروءات بحضرة الناس، ولا يُحَبُّ(12) عمله في المسجد ولا في مجالس الجماعات الحَفِلَة"(13)، وقال أبو العباس القرطبي: "يدل على استحباب تعاهُد السواك؛ لما يكره من تغيّر رائحة الفم بالأبخرة والأطعمة وغيرها، وعلى أنه يتجنب استعمال السواك في المساجد والمحافل وحضرة الناس، ولم يُرْوَ عنهﷺ أنه تسوَّك في المسجد، ولا في محفل من الناس؛ لأنه من باب إزالة القذر والوسخ، ولا يليق بالمساجد ولا محاضر الناس ولا يليق بذوي المروءات فعل ذلك في الملأ من الناس"(14).
4) ما روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «بينما نحنُ في المسجد مع رسول اللهﷺ إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فأسرع إليه الناس ليقعوا به، فقال النبيﷺ: دَعُوه لا تُزْرِموه(15) وأَهـْرِيقُوا عليه دلوا من مـاء، إنما بُعِثْتُم ميسِّرين ولم تُبْعَثُوا مُعَسِّرينَ، ثم إنَّ رسول اللهﷺ دعاه (أي: الأعرابي)، فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القَذَر، إنما هي لذكرِ الله تعالى، والصلاة، وقراءة القرآنِ»(16).
ووجه الاستدلال به أن النبيﷺ أتى بـ«إنما» وهي أداة الحصر، ولم يذكر السواك فخرج بمفهوم الحصر؛ قال القرطبي: "فيه حجة لمالك في منع إدخال الميت المسجد وتنزيهها عن الأقذار جملة؛ فلا يقص فيها شعر ولا ظفر، ولا يتسوك فيها؛ لأنه من باب إزالة القذر، ولا يتوضأ فيها، ولا يوكل فيها طعامٌ منتن الرائحة، إلى غير ذلك مما في هذا المعنى"(17).
هذا هو مذهب المالكية في السواك في المسجد؛ أما عند الشافعية والحنابلة فلا حرج في السواك داخل المسجد وبحضرة الناس؛ لأنه "من باب التنظيف والتطيُّب لا من باب إِزالة القاذورات"(18)؛ قال ابن حجر الهيتمي الشافعي في السواك للصلاة: "ويفعله لها ولغيرها، ولو بالمسجد إن أَمِنَ وصولَ مسْتَقْذَرٍ إليه"(19)، وقال البهوتي الحنبلي: "ولا يُكرَه السواك في المسجد؛ لعدم الدليل الخاص للكراهة"(20).
واستدلوا بأحاديث منها ما روى البخاري عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: «أتيتُ رسول اللهﷺ وهو يَسْتَنُّ بسواك بيده، ويقول: أُعْ أُعْ، والسواك في فيه، كأنه يَتَهَوَّع»(21).
قال ابن دقيق العيد: "ترجم البخارِي على هذا الحديث بِاستياك الإمامِ بحضرة رعيته فقال: "باب استياك الإمام بحضرة رعيته"؛ فإن الاستياك من أفعال البِذْلَة والْمِهْنَة، ويُلَازِمُه أيضا من إخراج البصاق وغيره ما لعل بعض الناس يتوهم أن ذلك يقتضي إخفاءه، وتركه بحضرة الرعية، وقد اعتبر الفقهاء في مواضع كثيرة هذا المعنى، وهو الذي يسمونه بحفظ المروءة، فأورد (أي البخاري) هذا الحديث لبيان أن الاستياك ليس من قبيل ما يُطْلَبُ إخفاؤه، ويتركه الإمام بحضرة الرعايا، إدخالا له في باب العبادات والقربات، والله أعلم"(22).
ولم أقف في النسخ التي بين يدي من صحيح البخاري على باب بهذا اللفظ: "باب استياك الإمام بحضرة رعيته"؛ ولعل هذا الذي دفع الحطاب أن ينقل هذا الكلام عن ابن دقيق العيد من غير تسمية البخاري فقال: "وقال ابن دقيق العيد: إن بعضهم تَرْجَمَ على هذا الحديث باستياك الإمام بحضرة رعيته"(23)؛ وكذلك فعل ابن حجر العسقلاني، والقسطلاني(24). والله أعلم.
الخلاصة: مذهب المالكية في السواك في المسجد مكروه؛ لأنه من إزالة المستقذرات؛ وفي غيره أن السواك ليس من باب إزالة المستقذرات، وإنما هو من باب القرب والعبادات؛ فلا يُطْلَب إخفاؤه ولا يمنع فعله في المسجد؛ ولكن المذهب المالكي في هذه المسألة أولى وتؤيده الطبائع السليمة؛ لأن السواك تنظيف باتفاق العلماء، والتنظيف هو: إزالة الأوساخ والأقذار باتفاق أيضا؛ إذا النتيجة: أن ما يزال من الأسنان بالسواك هو أوساخ وأقذار لا تصلح للتخلص منها في المسجد، كما لا تصلح لابتلاعها؛ فأيهما فعل المتسوك فقد أساء الأدب وساءت طبيعته. والله أعلم وهو سبحانه الموفق للصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
(1) هكذا في الذخيرة؛ وفي مواهب الحطاب: (1/264 و265) نقلا عنه: [ليُخْرِجَ الماءُ ما يَنْثُرُه السواك].
(2) الذخيرة للقرافي (1/285).
(3) المختصر الفقهي لابن عرفة: (1/130)، ومواهب الجليل للحطاب: (1/264).
(4) صحيح البخاري: كتاب الصوم: باب سواك الرطب واليابس للصائم، وسنن النسائي: كتاب الطهارة: باب الترغيب في السواك، وتغليق التعليق لابن حجر: (3/163 و166)، وصححه النووي في المجموع(1/267)، وقال المنذري في الترغيب(1/100): "رواه البخاري معلقا مجزوما؛ وتعليقاته المجزومة صحيحة".
(5) الفواكه الدواني للنفراوي: (2/265)، والتاج للعبدري: (7/618)، ومنح الجليل لعليش: (8/89).
(6) البيان والتحصيل لابن رشد: (2/317)، والمدخل لابن الحاج: (2/235).
(7) صحيح البخاري: كتاب الجمعة: باب السواك يوم الجمعة، وصحيح مسلم: كتاب الطهارة: باب السواك، والموطأ: كتاب الطهارة: باب ما جاء في السواك.
(8) سورة المائدة: الآية 7.
(9) سنن أبي داود: كتاب الطهارة: باب السواك، وسنن الترمذي: كتاب الطهارة: باب ما جاء في السواك.
(10) قال الهيثمي: "رجاله موثقون". انظر: المعجم الكبير للطبراني: (5/254)، ومجمع الزوائد للهيثمي: (2/99)، وتحفة الأحوذي للمباركفوري: (1/85).
(11) صحيح مسلم: كتاب الطهارة: باب السواك.
(12) قوله: "ولا يُحَبُّ" نقله عنه المناوي في فيض القدير(5/ 130) بلفظ: "ولا ينبغي".
(13) إكمال المعلم للقاضي عياض: (2/60)، ومواهب الجليل للحطاب: (1/266).
(14) المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم للقرطبي: (1/509).
(15) لا تزرموه -بضم أوله وسكون الزاي وكسر الراء من الإزرام-: لا تقطعوا عليه بوله يقال: زرم البول -بكسر الراء-: إذا انقطع، وأزرمته: قطعته وكذلك يقال في الدمع. انظر المفهم للقرطبي: (1/543 و544)، والفتح لابن حجر: (10/449).
(16) صحيح البخاري: كتاب الوضوء: باب ترك النبيﷺ والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد، وصحيح مسلم: كتاب الطهارة: باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات..
(17) المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم للقرطبي: (1/544).
(18) فتح الباري لابن حجر العسقلاني: (1/356).
(19) تحفة المحتاج في شرح المنهاج لابن حجر الهيتمي: (1/219).
(20) كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي: (1/74)، ومطالب أولي النهى للرحيباني: (2/263).
(21) صحيح البخاري: كتاب الوضوء: باب السواك.
(22) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد: (1/111 و112).
(23) مواهب الجليل للحطاب: (1/266).
(24) فتح الباري لابن حجر: (1/14)، وشرح القسطلاني إرشاد الساري: (1/24).
المرجع كتابي:
"أجوبة وفتاوى فيما استجد في العصر من النوازل والقضايا"
20 شوال 1440هـ 24 / 06 / 2019م.
خادمكم عبد الله بنطاهر التناني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
نسعد بتعليقاتكم ومقترحاتم تهمنا