خطبة مكتوبة:ظاهرةالغش وأخلاق التاجر الأمين - أئمة مروك -->
أحدث المواضيع
انتظار..

خطبة مكتوبة:ظاهرةالغش وأخلاق التاجر الأمين

الحمدلله خلق كل شيء بقدر، وأكرم الإنسان بالفكر والنظر، وشرع لتحصين ماله طرقا لا ضِرار فيها ولا ضَرر، وحرم أكل أموال الناس بالباطل والغش والغرر. وأشهد أن لا اله إلا الله شهادة تجعلنا ممن وحد الله تعالى وشكر، وممن آمن بالقضاء والقدر، شهادة تميزنا عمن ألحد في الله تعالى وكفر، ومن أشرك بالله تعالى وعبد الأصنام والبقر. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله من كان له خير قول وأفضل أثر، وأصح الحديث والخبر، وأعظم شريعة تحمي الناس من المشاكل والخطر، صلى الله وسلم عليه و على آله وأصحابه أكرم البشر، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم يكون للمؤمن الجنة وللكافر سقر.
أما بعد :فيا أيها الاخوة المؤمنون أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
إن من الحقائق الثابتة في الإسلام أنه دين ودنيا، يشرع لعبادات المؤمن كما يشرع لمعاملاته، يضع الأحكام لصلاته وصيامه كما يضعها لبيعه وشراءه، ومنطقة فقه المعاملات في الفقه الإسلامي أوسع بكثير من منطقة فقه العبادات، ولا يكمل دين المسلم إلا بحسن معاملاته، وفي الأثر «الدين المعاملة».
فتعالوا بنا اليوم للحديث عن المعاملات المالية
ونقف بالخصوص عند التاجر الأمين ومواصفاته، نستكشف الأخلاق التي أراد الإسلام أن يتصف بها التاجر الأمين، لأن التجارة في اقتصاد الأمة هي الدم الذي يجري في شريانها، هي الروح التي تحيى به معاملاتها، فإذا فسدت التجارة فسد دم الأمة، وهلكت روحها، فتكون عرضة للأمراض والفشل والتعاسة، يقول الرسولﷺ: «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميص؛  إن أعطى، رضي وإن لم يعط لم يرض» ويقولﷺ أيضا: «ما طفف قوم الكيل والميزان إلا أخذوا بالسنين» والتطفيف هو الغش في البيع والشراء، وقد بينه لنا القرآن الكريم وحذر منه إذ قال: {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}.
أيها الاخوة المؤمنون! إن النبيﷺ جعل التجارة أفضل الكسب، ووضع التاجر الأمين في مرتبة النبيئين والصديقين والشهداء، فقالﷺ فيما روى البخاري: «التاجر الأمين مع النبيئين والصديقين والشهداء»، وفيما روى الإمام أحمد أنهﷺ سئل عن أفضل الكسب؟ فقال: «بيع مبرور وعمل الرجل بيده». وأول مظاهر البيع المبرور أنه لا غش فيه، وأول مواصفات التاجر الأمين أنه لا يغش أحدا، وهل يجتمع الغش مع مرتبة النبيئين والصديقين والشهداء؟ وهل يكون بيع الغشاش مبرورا؟ فالبيع بالغش يبع مأزور؛ لا مبرور، فقد كان النبيﷺ يراقب بنفسه الأسواق فينهى عن الغش والخديعة، ويأمر بالصدق والأمانة، روى الإمام مسلم أن النبيﷺ خرج ذات يوم إلى السوق بعد سقوط المطر، وكان من عادتهﷺ أن يلاحظ معاملات الناس، فيصحح الأخطاء، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فوجد رجلا يبيع تـمْرا ليس بها بلل! وما بال هذا لم يبلل المطر تـمْره! وما كانﷺ ليتهم أحدا حتى يتأكد من خطئه، فأدخل يده في التمْر فوجده مبلولا من الداخل، فقالﷺ: «ما هذا يا صاحب التمر؟ ما هذا أيها التاجر؟ فقال التاجر: أصابه مطر يا رسول الله، فوضعت أسفله على أعلاه حتى يباع، فأنكر عليهﷺ هذا وأمره أن يدعه كما هو، لا يغطي عيبه، ولا يبع رديئه بجيده، وتبرأﷺ ممن يفعل ذلك فقالﷺ: «أفلا جعلته فوقه كي يراه الناس من غشنا فليس منا». ولا توجد كلمة تقشعر منها جلد المؤمن مثل قول النبيﷺ: «ليس منا»، ويل لمن تبرأ منهﷺ، وهل تحلو الحياة لمن تبرأ منه صاحب الشفاعة العظمىﷺ؟
ثم سار الصحابة على هذا المنوال، فكانوا يراقبون الأسواق مراقبة صارمة، فيصححون الأخطاء، ويحاربون ظاهرة الغش والخديعة، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون، وخصوصا منهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لقد مر ذات يوم على راع غنم فأراد أن يختبر ثقته وأمانته، فقال بعني شاة أيها الراعي، والراعي لا يعرف عمر فقال: إنها ليست لي؛ فهي لسيدي، فقال أمير المؤمنين عمر، قل له: أكلها الذئب، فقال الراعي: فأين الله؟ فذهب عمر إلى سيده فاشتراه منه وأعتقه، فقال: مثلك لا يكون خادما مملوكا، وهذا أبو هريرة رضي الله عنه بدوره يمر على صاحب محلبة يبع لبنا، فإذا هو يخلط الماء باللبن! فقال له أبو هريرة مستنكرا: كيف بك إذا قيل لك يوم القيامة: خلص الماء من اللبن وخلص اللبن من الماء! فلا غرابة في هذا الموقف من الصحابة رضوان الله عليهم ضد ظاهرة الغش، فهم الذين تربوا في مدرسة أستاذها رسول اللهﷺ الذي يقول لأنس بن مالك فيما رواه الترمذي بسند حسن: «يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل، يا بني ذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة» فإذا تبرأ النبيﷺ من الغشاش وعمله، فإن خالي القلب من الغش يكون صاحب النبيﷺ في الجنة.
أيها الاخوة المؤمنون لقد كشف الله للنبيﷺ عن حواجز الزمان والمكان، فتنبأ عن وقائع وأحداث فكانت كما أخبر في واقع الإنسان، وفي ذلك قالﷺ فيما روى البخاري والنسائي: «يأتي على الناس زمان، لا يبالي الرجل من أين أصاب المال، من حلال أم حرام». ولعل هذا الزمان قد أطل علينا من خلال معاملاتنا، فظاهرة الغش بلغت في أسواقنا مبلغا خطيرا، فليت شعري ماذا يقول الرسولﷺ لو اطلع اليوم على أسواقنا؟ ليت شعري ماذا سيفعل عمر لو اطلع على معاملاتنا؟ ليت شعري ماذا يكون موقف أبي هريرة لو وقف على ألبان محلباتنا وزبدها؟ خذ لك جولة في السوق ليتراء لك التكالب على الأموال دون المبالاة يطرق الوصول إليها، لتقرأ في وجوه الناس تعابير الشره والطمع والجشع، لترى الغش قد تجدر في كل شيء، أليس من الغش ما يفعل بعض التجار، حين يعرض بضاعته على أنها صنف جيد، بينما هو يبيع أردأ الأصناف بأغلى الأثمان؟ أليس من الغش المغالاة في الأسعار إلى أضعاف الربح السائد في الأسواق؟ أليس من الغش أن نجد صناديق الخضر والفواكه ظاهرها جيد وجديد، وباطنها رديئ ومتعفن؟ أليس من الغش أن تشتري اللحم فيحلف لك صاحبها: أنها شاة لا تتجاوز سنة، إذ بها قد اشتعل رأسها شيبا، وبلغت من الكبر عتيا؟ فأين ذلكم العسل النقي الصافي الشافي الذي عهدناه عند آباءنا وأجدادنا، والذي قال الله تعالى فيه: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فقد لوثته أيادي الغش؟ فأين زيت الزيتون الطاهر المبارك الذي يقول الله تعالى فيه: {مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ}. وهل تدرون أننا كدنا نفقد الثقة في أسواقنا؟ فمن منا يشتري السلعة وهو في مأمن من الغش المشؤوم؟ فمن منا يطمئن لسلعة إذا اشتراها؟ أليس من العيب أن نجد غير المسلمين في الغرب والشرق يطبقون أخلاق التجارة التي سنها لنا الإسلام يطبقون جميع القيم التي أوصانا بها الله عز وجل؟ فهم يحرصون على الكيل والميزان حرصا يجعلك مطمئنا، ويراقبون سلامة السلع وجودتها وأسعارها مراقبة تجعلك في مأمن من ضربات الغش المشؤوم، الشيء الذي وضع سلعتنا في الحضيض إذا ما قيست بسلعة الخارج، حتى إن التاجر نفسه إذا أراد أن يروج لسلعته، لا يجد وصفا أنسب لها من أن يقول: إنها من الخارج، عار علينا أن نحارب منتوجاتنا بغشنا، ويل لاقتصاد أمة يروج تجارها لمنتوجات أعدائها على حساب منتوجاتها، لقد أخذ الجشع بمجامع قلوبنا، فقصر بعد نظرنا، فلا نكاد نرى إلا الأكل بين أيدينا، دون أن نفكر في أكل غدنا ومستقبلنا، فصرنا نضيع مستقبلنا بملذات يومنا، ناسين أننا لن ينالنا من الرزق إلا ما كتب الله لنا، يقول الرسولﷺ: «إن روح القدس نفث في روعي: أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته».
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والحمد لله رب العالمين..
الحمدلله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون!
هل تدرون ما هو الحل لمشكل هذا الغش المستشري؟ وما هو الدواء لهذا الداء؟ إن الحل هو المراقبة، ولا أعني بها مراقبة المفتشين ولا المسؤولين؛ بل أعني بها في الدرجة الأولى مراقبة الله عز وجل، تربية المراقبة الربانية في نفس المؤمن، لأن مراقبة المفتشين قد تنجو منها بمالك، قد ترشو أحدهم فيتغاضى عن عيوب سلعتك، أو تعرف وجها يتوسط لأجل الثمن المرتفع لبضاعتك؛ ولكن مراقبة الله عز وجل لن تنجو منها، لأن حسابها سيكون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. فالتاجر الأمين هو الذي يراقب الله تعالى، ويعلم أن عين الله تراقبه، وأنه سبحانه وتعالى {لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين}، فالتاجر الأمين هو الذي يراقب نفسه وأقواله وأعماله وتحركاته ومعاملاته ليقومها على الصراط المستقيم، لا يحتاج فيه لمفتش ولا مراقب، لأن المراقبة فضيلة تنبع من أعماق القلوب فتطهرها، وتنبثق من طوايا النفوس فتزكيها، وترتبط بالباطن أكثر مما ترتبط بالظاهر، فهي قائمة على الشعور الحي العميق بجلال الله وسلطانه، تجعل الإنسان أمينا على الأموال بين يديه، فقد يستطيع أن يسرق منها أو يختلس أو يغش؛ لكنه لا يفعل، لأنه يتذكر دوما قوله تعالى: {إن الله كان عليكم رقيبا} وقوله تعالى: {وكان الله على كل شيء رقيبا} وقوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وقوله تعالى: {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور رحيم} وقول الرسولﷺ عند ما سأله جبريل عن الإحسان فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، فمراقبة الله تعالى هي التي جعلت النبيﷺ يقول وهو في الغار، وقد أحاط به الكفار: {لا تحزن إن الله معنا} ومراقبة الله تعالى هي التي جعلت سيدنا موسى يقول عندما أحاطت به جيوش فرعون من كل جانب: {كلا إن معي ربي سيهدين} فمراقبة الله تعالى هي التي جعلت سيدنا يوسف يقول عندما أحاطته امرأة العزيز بشهوتها العارمة وبجمالها الجذاب، فقالت: {هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون} إن انعدام المراقبة في نفس الإنسان تجعله شبيها بالحيوان يرتع فقط ليبتلع، ويجمع فقط لينتفع، ويسطو على الحقوق فقط لينتزع، وينتهك الحرمات فقط ليتمتع، فتفشو بذلك الرذائل، وتغيب الفضائل، فيتعامل الناس بالغش، وتسود شريعة الغاب،دون ارعواء ولا حساب ...
  ألافاتقوا الله عباد الله! وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
***  أئمة مروك_  :عبدالله بنطاهر التناني  ***
سيدي عبد الله بن طاهرالتناني إمام وخطيب بأكادير ومشرف مدرسة الإمام البخاري للتعليم العتيق
وللمزيد  من ترجمة شيخنا يرجى الضغط  :هنــا
وله خطب قيمة ولمن يريد الإستفادة منها له ذلك
بشرطين كما يقول شيخنا :
1) الدعاء لي -بعد الإخلاص- عن ظهر الغيب.
2) غض البصر -بعد الإصلاح- عما فيها من العيب.
وتابعوا نشرهاباستمرار في أئمة مروك "بحول الله وقوته.

هناك تعليق واحد:

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركات ه ياشيخنا الفاضل فانني متابع لخطبك وقد قمت بتعديل شئ منها لكي تواكب مانحن عليه فجزاك الله خيرا وبارك الله فيك وفي علمك

    ردحذف

نسعد بتعليقاتكم ومقترحاتم تهمنا