خطبة جمعة لمناسبة إعادة فتح المساجد
لصاحبها فضيلة الفقيه : عبدالله بنطاهر
بعنوان: صلاة الخوف من "كورونا" مع عودة صلاة جماعة في المساجد من جديد؛ (فماذا أعددنا لها؟)
الحمد لله فضل على صلاة الفرد صلاةَ الجماعة، وجعل الجماعة أساس العبادة والطاعة، وأشهد أن لا إله إلا الله شرع لنا الصلاة ضد الفحشاء والمنكر وقاية ومناعة، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المبعوث بالرحمة والشفاعة، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ذوي الإقدام والشجاعة، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الساعة.
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
دعونا نبدأ خطبة اليوم من تساؤل بسيط: لو قيل لأي واحد منا: إن سلعتك سوف تلقى رواجا لو انتقلتَ بها إلى بلد معين، وإن تجارتك ستكون مربحة في أحد الأسواق، أفلا يقطع من أجل الوصول إلى هذا السوق الفيافي والقفار، أفلا يقطع من أجل الوصول إلى ذلك البلد الأجواء والبحار، والفجاج والأنهار، أفلا يتجشم في سبيل كل ذلك المشاق والأسفار، حتى ولو كان الربح بالضعف مرة واحدة؛ فكيف لو كان الربح بالضعف مرتين؟ فكيف لو كان الربح بالضعف خمس مرات؟ فكيف لو كان عشرا؟ فكيف لو كان عشرين؟ فكيف لو كان خمسا وعشرين أو سبعا وعشرين ضعفا؟ فلا يسعه إلا أن يطير لتحقيق ذلك فورا، لا يشغله عنه شيء، وقد يكون من أخبره بذلك كاذبا، وقد يكون الخبر مظنونا وليس بمضمون، ولكنه ذاهب على كل حال، لا يستسيغ أن تفوته هذه الفرصة الفريدة، هكذا كان أغلب الناس فيما يخص الدنيا الفانية.
أيها الاخوة المؤمنون؛ لعلكم الآن تتساءلون: ما المقصود بهذا؟ إن الصادق المصدوق والنبي الأمينﷺ هو الذي أخبركم وخبره كله صدق ويقين، هو الذي كشف لكم عن ربح مضمون وليس بمظنون؛ فقالﷺ: «صلاة الرجل في جماعة تضعف (تزيد) على صلاته في بيته، وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا...»، وفي رواية: «...بسبع وعشرين درجة».
كنا قد حُرمنا من هذا الفضل بسبب "كورونا"؛ وها هو اليوم يعود بالتدريج من جديد؛ ولا بد من المحافظة عليه، والمحافظة عليه يكون بقدر المحافظة على الصحة؛ لأن صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان، والعقل السليم في الجسم السليم، والدين السليم في العقل السليم؛ وأساس سلامة التدين هو سلامة العقل والجسد معا؛ وكل تكليف بشرط العقل...
فالنبيﷺ يقدم سلامة الجسد مع المحافظة على سلامة الدين؛ ففي إحدى غزواتهﷺ اتفق الكفار على الهجوم على المسلمين بغتة إذا كانوا في صلاة العصر؛ لأنهم يعلمون أن المسلم لا يجوز له إخراج الصلاة عن وقتها مهما كان، فنزل جبريل فأخبر النبيﷺ بخطة الكفار الغادرة الماكرة؛ وعند ما علمﷺ بذلك صلى بالناس صلاة الخوف؛ أتدرون ما هي صلاة الخوف؟ إن النبيﷺ قسم الجيش إلى طائفتين: طائفة تصلي بالنبيﷺ، وطائفة في حراسة، فلما صلىﷺ نصف الصلاة جلس، وأتم مَنْ وراءه الصلاة، فذهبوا إلى مواقعهم العسكرية، وجاءت الطائفة الأخرى فصلت بالنبيﷺ بقية الصلاة، وفي هذا يقول الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً}.
تلكم هي صلاة الخوف في حالتها الأولى، وتشرع إذا لم يباغت العدو المسلمين، أما إذا كثف العدو الهجوم من كل جانب، فتأتي الحالة الثانية؛ يقول الله تعالى فيها: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}.
وأيضا صلاة الخوف من "كورونا" لها حالتان: الأولى: هي التي كنا نصليها في منازلنا أربعة أشهر تقريبا؛ وها هي المساجد قد فتحت اليوم من جديد، وعدو الإنسانية "كورونا" ما زال يهاجم بكثافة ويضرب بقوة، وهذا يفرض علينا أن نصلي في المساجد المفتوحة صلاة الخوف من "كورونا" في حالتها الثانية.
وهذه الحالة الثانية تفرض علينا قواعد جديدة في الصلاة جماعة، أصلها في الإسلام هو صلاة الخوف في القرآن والسنة، تفرض علينا أن نتقي فيها الله ما استطعنا؛ والله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وذلك بالالتزام بقواعد تجعلنا نحافظ على الصحة والصلاة معا ما استطعنا:
● القاعدة الأولى: تعقيم المساجد وتنظيفها من كل ما يؤَدِّي إلى الضرر ويُؤْذِي؛ قالت أمنا عائشة -رضي الله عنها-: «أمر رسول اللهِﷺ بالمساجد أن تُبْنَى في الدُّور وأن تُطَهَّرَ وَتُطَيَّبَ».
● القاعدة الثانية: كل من يشعر بأعراض يمكن أن تكون بسبب "كورونا"؛ مثل ارتفاع الحرارة وحدة السعال فلا يقربنَّ المساجد؛ فإذا كان الرسولﷺ يقول: «من أكل الثوم والبصل فلا يَقْرَبنَّ مسجدنا...»؛ فكيف بمن أصيب بمرض يهدد الإنسانية كلها؟ بل يجب عليه أن يذهب فورا إلى المراكز المكلفة بمحاربة "كورونا" من أجل القيام بالتحاليل اللازمة حتى لا يؤذي نفسه وغيره؛ بدأ من عائلته؛ زوجته وأولاده وأمه وأبيه وغيرهم من كل مخالطيه.
● القاعدة الثالثة: من رغب في الذهاب للصلاة جماعة في المساجد المفتوحة في هذه الحالة، وجب عليه أن يتوضأ في منزله؛ لأن المرافق الصحية وأماكن الوضوء في المساجد لن تفتح؛ لإمكان أن تكون بؤرة لانتشار هذا المرض بسبب استعمال أواني الوضوء من طرف الجميع؛ يكفي أن يكون واحد حاملا لفيروس "كورونا" -نسأل الله السلامة- ليوزعه على الجميع؛ والنبيﷺ يقول: «لا يُورِد مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ»، أي لا يجوز أن يختلط المريض مع الصحيح إذا كان المرض ينتقل من شخص لآخر، وقالﷺ: «وفِرَّ من المجذوم فِراركَ من الأسد».
أما الحديث: «لا عدوى ولا طيرة...»، فيتعلق بالاعتقاد ولا يتعلق بالممارسة؛ فما يجب اعتقاده: «لا عَدْوى، ولا طِيَرةَ»، وما يجب فعله: «فِرَّ من المجذوم فِراركَ من الأسد».
● القاعدة الرابعة: المساجد لا تفتح إلا عند الأذان فلا يجوز الذهاب إليها قبل الآذان بنصف ساعة أو بساعة، فنتجمع في أبوابها كما كنا نفعل قبل "كورونا"؛ لما يشكل التجمعات من الخطر على الجميع؛ و"كورونا" مرض قاتل والله تعالى يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}، ويقول سبحانه: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.
● القاعدة الخامسة: قياس الحرارة قبل الدخول للمسجد عند توفر جهاز قياس الحرارة، مع المحافظة على تعقيم اليدين قبل الدخول ووضع الكِمامات؛ دفعا للشكوك والشبهات؛ والرسولﷺ يقول: «فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعِرْضهِ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام»؛ ومن أعظم الحرام الإضرار بالنفس أو بالغير؛ {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}.
● القاعدة السادسة: عدم استعمال أكياس الأحذية التي يستعملها الجميع لما فيها الضرر والضرار؛ والرسولﷺ: «لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ»؛ أي لا يجوز أن يضر الإنسان بنفسه ولا أن يكون سببا في الإضرار بغيره؛ فيجب على كل واحد أن يصحب معه كيس نعليه الخاص به فلا يستعمله غيره.
● القاعدة السابعة: في داخل المسجد يجب استعمال السجادة الخاصة والأخذ بالمسافة الصحية بين المصلين في الصفوف بالتباعد الجسدي (المتر ونصفه على الأقل)، مع اجتناب كل ما يستعمله الغير من أحجار التيمم والسبحات، والمصاحف والمصافحات؛ دفعا للشبهات، وبعد انتهاء الصلاة يجب مغادرة المسجد فورا من غير تأخير ولا انتظار ولا ازدحام على الأبواب.
تلكم هي قواعد السلامة الصحية من أجل إقامة صلاة الخوف من "كورونا" في المساجد؛ فمن التزم بها فإن الله تعالى يجازيه حسب نيته للقاعدة العظيمة في الإسلام: "من هم بحسنة فلم يعلمها لمانع من الموانع فله أجرها"، وبهذه القواعد نحافظ على الصحة مع الصلاة جماعة؛ وقد قال فيها رسول اللهﷺ: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله؛ قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطَا إلى المساجد...»، وقالﷺ: «... من توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة...».
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين…
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون؛
انتشر في المواقع الاجتماعية "أوديوهات" أو "فيديوهات" للبعض يدَّعون فيها بأن إقامة الصلاة جماعة مع التباعد بين الصفوف مبطل للصلاة، فيشوشون بها الناس؛ بناء على أحاديث فيها الأمر بتسوية الصفوف منها:
ما روى الشيخان عن أنس: قال: قال رسولُ اللهﷺ: «سوُّوا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة»، وفي رواية أبي هريرة: «من حُسْنِ الصلاة».
وما روى أبو داود عن ابن عمر أن النبيﷺ قال: «أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسُدُّوا الخلل، ولا تَذَروا فُرُجات الشيطان، ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطعه قطعه الله».
ولا أستطيع أن أقول فيمن يقول ببطلان الصلاة لهذا إلا أنه يهْرِف فيما لا يعرف؛ فلو رجع إلى كتب الفقهاء لوجد أن تسوية الصفوف عند جمهور المذاهب وعامة العلماء مستحب وليس بواجب(1)؛ لأنه من تمام الصلاة وليس من شروط صحتها، ولم يقل بوجوبه إلا القليل؛ منهم ابن حزم الظاهري وابن تيمية رحمهما الله؛ وحتى من قال بوجوبه فإن سقوط الواجب أيا كان من أجل الضرورة أوجب؛ لأن الواجب يسقط مع العجز
فليس واجب بلا اختيار *** ولا محرم بالاضطرار
قال عميد الفقه المالكي الشيخ خليل رحمه الله: "وَجَازَ صَلَاةُ مُنْفَرِدٍ خَلْفَ صَفٍّ"؛ وقال شراحه: أي: إن عجز عن الدخول في الصف وصلى وحده اضطرارا فلا حرج عليه؛ فإن فعل ذلك اختيارا من غير ضرورة فقد ارتكب مكروها وليس حراما؛ أما فضل الصلاة جماعة فيحصل له مطلقا؛ سواء صلى خلف الصف وحده اضطرارا، أو اختيارا؛ وإنما يفوته ثواب الصلاة في الصف وأجر تسوية الصفوف إن فعل ذلك اختيارا من غير ضرورة(2).
ونحن اليوم إذا لم نستطع إقامة الصلاة جماعة في المساجد مع تسوية الصفوف بسبب "كورونا"، فعلى الأقل أن نقيمها جماعة متباعدين؛ امتثالا لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}؛ وهذا غاية ما نستطيع في هذه الظروف.
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يمكن الرجوع في المسالة إلى هذه الكتب: الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني للنفرواي المالكي: (1/211)، والشرح الكبير للشيخ الدردير المالكي: (1/334)، والمنهاج القويم شرح المقدمة الحضرمية لابن حجر الهيتمي الشافعي: (ص: 164)، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف لعلاء الدين المَرْداوي الحنبلي: (3/404)، والنكت والفوائد لبرهان الدين ابن مفلح الحنبلي: (1/114)، والفتاوى الكبرى لابن تيمية: (5/331)، وفتح الباري لابن حجر: (2/209).
(2) الشرح الكبير للشيخ الدردير المالكي: (1/334).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
نسعد بتعليقاتكم ومقترحاتم تهمنا