جطبة الجمعة حول ظاهرة الربا وعواقبها الوخيمة دينياودنيويا - أئمة مروك -->
أحدث المواضيع
انتظار..

جطبة الجمعة حول ظاهرة الربا وعواقبها الوخيمة دينياودنيويا


من إعدادفضيلة الفقيه :عبدالله بن الطاهر
تاريخ إلقائها في مسجد الإمام البخاري: 16 صفر 1440هـ 26 / 10 / 2018م.
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه

الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، وفق من شاء من عباده لما يحب ويرضاه، وفضل الصالح على الطالح واجتباه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نعبد إلا إياه، حذر المؤمن من مخاطر الربا ونهاه، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ومصطفاه، طوبى لمن اقتدى به ووالاه، وويل لمن أعرض عن شرعه وعاداه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين كان هواهم تبعا لهواه، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى أن نلقاه.
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
دعونا نبدأ خطبة اليوم بقصة يتداولها الناس فيما بينهم، إنها قصةٌ قد تكون صحيحة في الواقع، وقد تكون مجرد حكاية، يقال: بأن أحدهم أراد أن يأخذ قرضا من أحد البنوك، فصار الموظف يسأله عن الوثائق المطلوبة لاستكمال ملفه، فسأله عن وثيقة السوابق العدلية قائلا: هل دخلت السجن يوما؟ فأجاب الذي يطلب القرض: لا؛ يا سيدي، إنما أهيئ له نفسي، وهذا هو ملفه، بمعنى أن ملف القرض هو نفسه الملف الذي سيؤدي به إلى السجن.

فهذه القصة وإن كانت مجرد حكاية إلا أنها تدل على أن من يتعامل بالربا لا بد يوما ما يدفع الثمن؛ وهذا الواقع المرير، يشهد على ما سبق وأكثر بكثير؛ فكثيرا ما شتت القروض الربوية من دول! وكثيرا ما سجنت من رجال! وكثيرا ما حطمت من أعمال! وكثيرا ما خيبت من آمال! فكم في السجون من ضحاياها! أصحاب الشيكات بدون رصيد، وأصحاب الديون الربوية بدون تسديد؛ أتدرون لماذا؟ لأن من تعامل بالربا قد أعلن الحرب ضد الله تعالى، ومعلوم مسبقا من المهزوم الهالك في هذه الحرب المعلنة، لأن من حارب الله، فهو المهزوم في الدنيا، المخذول في الآخرة، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}،

 ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ}؛ ففي هذه الآية الكريمة، يخبرنا سبحانه وتعالى عن جملة من التهديدات، كل واحدة أكبر من أختها:
أولا: أن الله سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} وقال: {إن كنتم مؤمنين}؛ فقد نادى الله عز وجل عباده باسم الإيمان، واشترط في الإيمان الابتعاد من الربا، فدل ذلك على أن التعاطي للربا لا يحل ولا يليق بالمؤمن.
ثانيا: يقول الله عز وجل {اتَّقُواْ اللّهَ}؛ فدل أيضا على أن الذي يتعاطى الربا، لا يخاف الله ولا يتقيه.

ثالثا: يقول الله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}؛ أي اتركوه، وهذا أمر بترك الربا، والأمر يفيد الوجوب، فدل أن من يتعاطى الربا، قد عصا أمر الله.
رابعا: أنه سبحانه، أعلن الحرب على من لم يترك التعامل بالربا، يقول الله {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ}: أي إن لم تتركوا الربا، {فَأْذَنُواْ}؛ أي اعلموا أنكم تحاربون الله ورسوله، ولم يعلن الله تعالى الحرب في أي جريمة أخرى في القرآن، أما السنة فقد أعلن الله فيها الحرب ضد أعداء أولياء الله الصالحين، حيث قال رسول اللهﷺ فيما البخاري: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ». 

ومن حارب الله ورسوله فهو مهزوم ولابد، ثم إن الإيذان بالحرب من الله ورسوله، أعم من القتال بالسيف والمدافع، فهذه الحرب معلنة على كل مجتمع يجعل الربا قاعدة نظامه الاقتصادي والاجتماعي، فالحرب من الله سبحانه وتعالى ضد الربا معلنة في صورتها الشاملة الداهمة الغامرة، وهي حرب على الأعصاب والقلوب، وحرب على البركة والرخاء، وحرب على السعادة والطمأنينة، وحرب القلق والخوف، وحرب الجفاف والجفاء، وحرب الإرجاف والإرهاب، وحرب الحروب والفتن، وحرب الأمراض والأوجاع، فالله عز وجل ليس في حاجة للجنود ولا للعتاد.
وقد يتساءل البعض: ما هي الربا؟ وما حدود الحلال والحرام فيها؟ وما حكم القليل منها؟ 

إن الربا ببساطة -يا عباد الله- تشمل: كل من أخذ قرضا ليرد أكثر منه؛ حتى ولو بواحد بالمائة، لأن فيها أكلَ أموال الناس بغير حق، وبدون مقابل، وفيها إضرار بالفقراء والمحتاجين بين الناس؛ وكلها بأشكالها وأنواعها جريمة محرمة، أخبر النبيﷺ أن أقلها جرما يعادل جريمة من يزني بأمه، فقالﷺ فيما روى ابن ماجه والحاكم: «الربا اثنان وسبعون بابا [أو حوبا]؛ أدناها [وأيسرها] مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه»، ولذلك فعقابها أليم، 

فقد رأى الرسولﷺ ليلة الإسراء والمعراج صورة توضح عذاب الذين يتعاملون بالربا، الذين يمتصون دماء الناس بالديون الربوية المجحفة، الذين يحاربون الله ورسوله، رآهم النبيﷺ يسبحون في بحر من الدماء، لأنهم قد امتصوا في الدنيا دماء الناس، بطونهم منتفخة أمثال البيوت، كلما حاول أحدهم القيام سقط، والناس يسحقونهم بأرجلهم، لأنهم كانوا في الدنيا يسحقون قلوب الناس بالربا، والله تعالى يقول: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}.

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك، ولا تجعلنا ممن يقول: اللهم اغننا بحلالك وحرامك   
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والحمد لله رب العالمين...
الحمد لله رب العالمين… 

أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ إن الذين يتعاملون بالربا يسمونها بغير أسمائها، يسمونها ربحا وفائدة، حتى أصبح من الأمور العادية التي لا تنفك منها النفس، ولا تستشعر لها عقوبة، فيسمون القروض الربوية بالعادية، والقروض الإسلامية بالبديلة، وهذا عادة المرجفين في وسائل الإعلام المختلفة؛ فقد استطاعوا بمكرهم، أن يظهروا المعروف في صورة المنكر، والمنكر في صورة المعروف، فتراهم يسمون المحرمات بغير اسمها، ويطلقون عليها أسماء خداعة وجذابة، تبعا لمصالحهم المفسدة، 

فتجدهم مثلا -كما يعلنون أن الربا فائدة- يعلنون أن الرشوة هدية وأن الخمر مشروبات روحية، وأن الكذب دبلوماسية، وأن النفاق مجاملة، وأن الرقص والخلاعة فن وموهبة، وأن الْـمَغْنَى حياة الروح، وأن التبرج والتهتك تقدم وحضارة، وأن الحجاب والعفة والحشمة تأخر ورجعية، وأن الزنا حرية شخصية، 

فساعدهم ذلك على نشر أباطيلهم وضلالهم، فاختلطت المفاهيم، واختلت الموازين، وتبدلت المعاير، والتبس على الناس أمر الحلال والحرام على وضوحه، وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على أن الجهل يحجب الرؤية، وهو سلاح الشيطان، الذي يستخدمه في التلبيس والتضليل، وإن الخيط الذي يربط بين هذه الجرائم كلها هو اللعن والإبعاد والطرد من رحمة الله فقد روى الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله قال: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِﷺ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ وقال: هم فيه سواء»، 

ولهذا فإن خطر الربا عظيم، وأمره جسيم، ولا يمكن الابتعاد منه إلا بمعرفة أحكامه، ومن لم يستطع معرفتها بنفسه، فعليه أن يسأل أهل العلم، ولا يجوز للمسلم أن يقدم على معاملة، أو يساهم في شركة أو مؤسسة، إلا بعد التأكد من خلوها من الربا، ليسلم بذلك دينه وينجو من عذاب ربه، ولا يجوز تقليد الناس فيما هم عليه من غير بصيرة، خصوصا في هذا العصر، الذي كثر فيه عدم المبالاة بنوعية المكاسب.

وقد قال النبيﷺ فيما روى أبو داود: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يَبْقَى أَحَدٌ إِلا أَكَلَ الرِّبَا؛ فَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ بُخَارِهِ» وفي رواية «مِنْ غُبَارِهِ».

فإلى متى نعرض أنفسنا للعنة الله ورسولهﷺ؟ إلى متى نستسلم لطغيان الربا الحرام؟ إلى متى نغمس أنفسنا في مستنقعات رذائلها؟ إلى متى نستثمر أموالنا في الحرام؟ إلى متى نسمي الأشياء بغير مسمياتها؟
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نسعد بتعليقاتكم ومقترحاتم تهمنا