محاسن الرفق وآثاره الطيبة على عملية التعليم والتربية
إعداد فضيلة الأستاذ شوقي الفلالي
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه....
حديثنا اليوم عن خُلق عظيم من أخلاق الإسلام الراقية؛ مع صِفةٍ عظيمة جامِعة لمكارِم الأخلاقِ، ضابطة لحسن السّلوك.
صِفةٌ طالما تحدَّث الناس عنها، واستحسنتها نفوسهم، وامتدحوها في تجمعاتهم، ولكنّها السلوكُ الغائب في واقعنا الأسري والتربوي.
خلُقٌ هو من أشهَر ثمارِ حُسن الخلق وأشهاها، خلُقٌ يقول فيه نبيُّنا محمدٌ ﷺ "مَا كَانَ في شيءٍ إلا زَانَه، وَمَا نُزِعَ مِنْ شيءٍ إلا شَانَه"؛ إنه خلق الرّفقُ يا كرام.
فما أحوج المسلم إلى الرفق في قوله وفعله، في سلوكه ومعاملته، مع أهله وأقاربه، مع أصدقائه وأحبابه، مع الصغار والكبار، مع الذكور والإناث، مع الإنسان ومع سائر الكائنات.
ما أحوجنا إلى الرفق واللين في زمن كثرت فيه مظاهر العنف والقسوة والغلظة والجفاء، في البيوت والشوارع والأسواق والمؤسسات التعليمية والملاعب والأندية، وغير ذلك من الأماكن العامة والخاصة.
الرفق هو لين الجانب، ولطافةُ الفعل، والأخذُ بالأيسر والأسهل، وأخذٌ الأمور بأحسن وجوهها وأيسرِ مسالكها.
الرفق هو القدرةِ القادرة على ضبطِ الانفعال، الرفق هو مظهرٌ من مظاهر التديُّن الصحيح الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن في تعامله وخلقه وتربيته وتوجيه من هم دونه من الصغار.
الرفق من شأنه أن يُصلح ويعطي أفضل النتائج، بخلاف العنف فمِن شأنه أن يفسد ويعطي أسوأ النتائج، فمن أعطي الرفق فقد أعطي خيرا كثيرا، ومن حرم من الرفق فقد فقدَ خيرا كثيرا.
وحسْب المسلم أن يعلم أن الرفق من صفات الله تعالى العليا التي أحبها لعباده في الأمور كلها؛ ففي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ".
الرفق خلق نبوي كريم حث عليه النبي ﷺ وبين فضله وقيمته، أخرج الترمذي والبيهقي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الخَيْرِ".
فبالرفق والتيسير واللين والسماحة تُفتَح مغاليق القلوب، وتكون التربية ويكون التعليم، لا بالعنف والتعسير والشدة والمؤاخذة، ولكن بالتيسير والتبشير؛ وهذا هو هدي نبينا المصطفى ﷺ وهذه هي وصيته؛ ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ"بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا"
ذلك أن الناس ينفرون بطبائعهم من الفظاظة والخشونة والعنف، ويألفون الرقة واللين والرفق، ولذا قال ربنا عزوجل لنبيه الكريم ﷺ {فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} آل عمران: 159.
ولما أرسل الله عزوجل موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون وهو من هو في ظلمه وطغيانه وتجبره ومعاداته الحق وأهله، قال الله عزوجل{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} طه: 43 - 44.
فمُحال أن يأتي الإصلاح بعنف، ومحال أن يكون التغيير إلى الخير بالشدة والعنف؟ فالدعوة تحتاج إلى رفق، والنصيحة تحتاج إلى رفق، والتعليم يحتاج إلى رفق، والتربية تحتاج إلى رفق، وهذا هو منهج حبيبنا المصطفى ﷺ في معالجة الأمور، ومواجهة الأحداث، وتهذيب النفوس، وتربية الأجيال، وتعليم الجاهل، وتنبيه المسيء، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي المَسْجِدِ، فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ "دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ".
فمن الواجب على الآباء والمربين: أن يغرسوا خلق الرفق في نفوس الأبناء والتلاميذ، فهم في حاجة إلى الرفق في مؤسساتهم، وبيوتهم، وشوارعهم.
المسيء يحتاج إلى رفق، والمخطئ يحتاج إلى رفق، والمتعلم يحتاج إلى رفق، أبناؤنا وبناتنا يحتاجون إلى الرفق وحسن التوجيه في البيوت
إن قضية الفقيه الذي توبع على خلفية فيديو تعنيف طلبة القرآن بأحد الكتاتيب بمنطقة باب تازة القروية، فهي مجرد حالة رصدتها كاميرات الهاتف النقال ونشرتها مواقع التواصل الاجتماعي أما يوميا هناك حالات للعنف ضد اطفال ليس من قبيل الفقيه "مول الفلقة" بل من قبل والديهم داخل البيوت حيث لا ترصدها كاميرات الهواتف ولا تنقلها وسائل التواصل الاجتماعي، حالات متعددة لأطفال تعرضوا للعنف اللفظي من قبل آبائهم من سب وشتم وتعرضهم للتعذيب الجسدي من قبل والديهم ولم تنقلها لنا وسائل التواصل الاجتماعي
فقد أورد تقرير المنظمة الأممية أن زهاء 90 في المائة من أطفال المغرب بين سنتين وأربع سنوات، سبق لهم أن تجرعوا مرارة العنف من طرف آبائهم وأمهاتهم بدعوى ضبط السلوك والعقوبات على التصرفات الخاطئة.
وأن 40 في المائة من المغاربة يعتقدون أن العقاب الجسدي من طرف الوالدين يعتبر عاملا أساسيا في تربية وتقويم سلوكيات الأطفال ويضع تقرير يونيسف المغرب في المرتبة العاشرة عالميا في نسبة العنف ضد الأطفال.
كثير من المربين مدرسين وآباء ينتهجِون الصرامة في معاملة الأطفال ظنًا منهم بأنهم بذلك يُحسِنون تربيتهم وتأديبهم! فتجِد بعضهم قليل الابتسامة كثير الأوامر-افعل لا تفعل-كأنه قائِد يَسوس أفراد كتيبة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "جاء أعرابيٌّ إلى النبي ﷺ فقال: تُقبِّلون الصِّبيان فما نُقبِّلهم، فقال النبيﷺ :"أَو َأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ" البخاري.
وما يقع من بعض كبار السن من تعنيفِ اتجاه الأطفال وهم في بيوت الله لمجرَّد تواجدهم بالمسجد أو صدور أي خطأ غير متعمَّد منهم، فتجد المسارعة في التكبيت والتشديد الذي قد يتسبَّب إما في كره الطفل للمسجد أو عزمِه الأكيد على عدم دخوله مرةً أخرى بل وكره كل ما له صلة بالتدين فهذا رسول الله ﷺ يقول: "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوّز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه" البخاري ومسلم
فهل عنف النبي ﷺ الصبي أو أمه، فهل انت أحرص على بيوت الله من رسول الله، أم أنت أحسن تربية من رسول الله ﷺ.
ولذلك جاءت هذه الخطبة ليست فقط لاستنكار ما يتعرض له بعض الأطفال من قبل بعض معلميهم في التعليم بل هي خطبة تحسيسية بخطورة العنف الممارس على الأطفال سواء داخل البيوت أو في المؤسسات التعليمية نمارس ممارسات خاطئة ونظن انها من الدين
قديما –نعم-كان بعض المربين والمعلمين، يرون أن استعمال القسوة في عملية التعلم أمر ضروري، لأن الشدة والعقوبة، في نظرهم، هي الرادع عن تكرار الوقوع في الأخطاء، قديما كان يقول الأب للمدرس "أنت ذبح وأنا نسلخ "
قديما كان الطفل يعاقب في المدرسة وتتم معاقبته مرة ثانية في البيت من قبل الوالدين هذه هي الأساليب التي كانت معتمدة في القديم وما زال البعض اليوم يقول "وحنا هكا تربينا" أي بالشدة والقسوة.
فهذه الأساليب التي كان يقوم بها آباؤنا ليست بالضرورة أن تكون أساليب صحيحة فضلا أن تكون شرعية وخاصة في هذا العصر فلئن كان هذا الأسلوب معمولا به قديما فهو غير مستساغ اليوم ولذلك كان يقول الامام علي ﷺ :"ربوا أولادكم لزمان غير زمانكم" ويقول ﷺ :"لا تكرهوا أولادكم على عاداتكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم"
بل إن الشدة في التربية ليس منهجا إسلاميا ولو فعله من فعله من المربين فالمربي والمعلم يبقى مربي ومعلم لا أن يتحول إلى جلاد.
دلوني على حديث واحد أو واقعة ضرب رسول الله ﷺ أحدا من اجل تربيته وتعليمه بل العكس تماما فتروي السيدة عائشة رضى الله عنها انها قالت: ما ضرب رسول الله ﷺ شيئاً قطُّ بيده، ولا امرأةً، ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قطُّ فينتقم من صاحبه إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله تعالى"
بل كان ﷺ إذا أراد أن يؤدب خَوف بالسِواك، فقد خدم أنس بن مالك النبي ﷺ عشر سنين يأتي له بوضوئه وما يحتاج إليه، فعندما كان يغضب الرسول ﷺ من أنس يقول: "يا أنيس! ويهز له السواك هكذا، لولا مخافة القصاص يوم القيامة لأوجعتك ضرباً بهذا السواك."
ولما بعث رسول الله ﷺ أنساً إلى السوق ليشتري أقطاً وهو "مثل الجبنة حليب مجفف" فذهب فوجد في الطريق صبياناً يلعبون فجلس يلعب معهم فضاع منه المال، فخاف الرسول ﷺ أن يكون أنس قد تاه في الطريق، وهو أمانة عنده، فأمه أتت به ليخدم الرسول ﷺ، ويتعلم منه العلم، فذهب يبحث عنه فوجده يلعب مع الصبيان، فأمسكه من قفاه، وقال "يا أنيس؟! أين الأقط؟ فارتبك أنس وخاف، وقال له: إنه ضاع مني المال، فقال رسول اللهﷺ فماذا فعل الرسول المربي المعلم هل عاقبه او شتمه أو سبه أو وبخه بل قال له المعلم والمربي رسول الله ﷺ "يأتي الله بخير منها يا أنس! فأكمل لعبك واتبعني إلى البيت". فيا شقاء من ابتعد عن رحمة وحنان ورفق الحبيب المصطفى ﷺ
عباد الله: إن أسلوب الشدة والقسوة تكرهه النفس البشرية التي تميل بطبعها إلى الرفق ولين الجانب، وطيب الكلام، وتأنس به، وتنفر من الجفوة والغلظة، لذلك كان حريا بالمعلمين والمربين أن يدركوا ويعوا هذا الجانب في تعاملهم مع تلاميذهم وطلابهم، يقول الرسولﷺ :"إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه" ويقول ﷺ "إن الله يحب الرفق في الأمر كله"
فاللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه .... أما بعد. عباد الله: لقد ضرب الرسول ﷺ أروع الأمثلة وأعلاها في حسن تعليمه ورفقة بصحابته رضوان الله عليهم ، فمنها :
عن أنس ﷺ قال :بينما نحن في المسجد مع رسول الله ﷺ، إذ جاء أعرابي ، فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله ﷺ : مه مه فقال رسول الله ﷺ " لا تزرموه ، دعوه " فتركوه حتى بال ، ثم إن رسول الله ﷺ دعاه ، فقال له "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر ، إنما هي لذكر الله والصلاة ، وقراءة القرآن "وقال للصحابة أهريقوا عليهِ سَجْلًا من ماءٍ أو دلوًا من ماءٍ ثمَّ قالَ إنَّما بُعثتُم ميسِّرينَ ولم تبعثوا معسِّرين ثم قال الأعرابي بعد أن فقه اللهمَّ ارحمني ومحمدًا ، ولَا ترحمْ معنا أحدًا ، فالتفَتَ إليهِ النبيُّ ﷺ فقال : لقدْ تَحَجَّرْتَ واسعًا"
انظروا رحمكم الله إلى مدى تأثر الأعرابي برفق الرسول وحسن تعليمه وتوجيهه فالنبي ﷺ لم يعنفه ولم يوبخه، بل دعاه وعلمه برفق ورحمة.
فاللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أبقيتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا يا أرحم الراحمين.
اللهم صل على سيدنا وعلى آل سيدنا محمد......
اللهم انصر جلالة الملك محمد السادس نصرا مقرونا بالهداية والتوفيق وأيده بتأييدك وأعزه بطاعتك اللهم كن له على الحق مؤيدا ونصيرا ومعينا وظهيرا اللهم اجعل بطانته صالحة تعينه على الحق إذا ذكر وتذكره إذا نسي اللهم شد أزره بالصالحين من أمته اللهم أصلح ولي عهده المولى الحسن وأنبته نباتا حسنا وبارك اللهم في صنوه المولى الرشيد يا رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
نسعد بتعليقاتكم ومقترحاتم تهمنا