كورونا وعمرة النبيّﷺ في الحديبية بين منع الكفار مكة ومنع كورونا المساجد - أئمة مروك -->
أحدث المواضيع
انتظار..

كورونا وعمرة النبيّﷺ في الحديبية بين منع الكفار مكة ومنع كورونا المساجد




 

تأصيل وتنزيل
بمناسة ذكرى عمرة الحديبة في شهر ذي القعدة 
في إطار الدعوة للعودة للسيرة النبوية مدارسة ممارسة
بقلم فضيلة الفقيه عبدالله بنطاهر

إن عمرة الحديبية ليست مجرد حدث وقع ومضى، ومجرد أمر جاء وانقضى؛ بل هي مدرسة خلَّفت لنا أحكاما شرعية مهمة، وأخلاقا حسنة عظيمة؛ فليس "كورونا" أول مانع منع المسلمين من أداء المناسك في مكة المكرمة؛ فقد منع كفار مكة النبيﷺ في الحديبية من أداء العمرة، فنزل القرآن الكريم بأحكام المنع والإحصار من مكة {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} فصار يتلى على مر الأزمان. 
   
الحمد لله الذي جعل سيرة الرسولﷺ أساسَ العمل والعبادة، وهو المنعم سبحانه علينا بدأ وإعادة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصين له الشهادة، أمر بالاقتداء بالسيرة النبوية حتى نحقق لأنفسنا في الدارين السعادة، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي نشر الإسلام بحسن الإدارة وقوة الإرادة، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم يكون فيه نصيب هذه الدنيا النهايةَ والإبادةَ

أما بعد؛ فيا أيها الاخوة المؤمنون أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته 
دعونا اليوم نرجع بكم إلى السيرة النبوية العطرة، نستكشف أسرارها، نصلح مشاكل مجتمعنا بفقهها، نحارب بالوقوف على أحداثها جهلنا بها، نستمد لمواجهة أعدائنا الشجاعة منها، فهي منبع سيال لا ينضب معينها، ومدرسة عظيمة تنوعت أبحاثها وشعبها، لا يشبع منها الباحث مهما غاص في بحارها، ولا يمل منها الدارس مهما سار في فجاجها. 
وسنخصص خطبة اليوم لعمرة الحديبية لأسباب ثلاثة:
السبب الأول: أننا في شهر ذي القعدة، وهو الشهر الحادي عشر من الشهور الهجرية الإسلامية، وفيه اعتمر النبيﷺ ثلاث عُمَر: عمرة الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، ثم عمرة القضاء في السنة السابعة من الهجرة، ثم عمرة الجعرانة في السنة الثامنة بعد فتح مكة. 
السبب الثاني: دفاعا عن النبيﷺ ضد أولئك الأدعياء المنافقين الذين لا يتركون فرصة إلا واغتنموها للهجوم على النبيﷺ؛ وأقوى رد عليهم هو الرجوع للتعلم من سيرتهﷺ مدارسة لفقهها، وممارسة بالاقتداء به عند كل اقتضاء.
السبب الثالث: لأن عمرة الحديبية كانت أول منع للمسلمين من دخول مكة لأداء المناسك، وقد مُنعنا نحن اليوم بسبب كورونا من دخول مكة ودخول المساجد، وذلك بين التأصيل بعمرة الحديبية والتنزيل في مواجهة كورونا.

هذه أسباب الاختيار؛ أما سبب وقوع عمرة الحديبية فهو: الرؤيا المنامية؛ وذلك أن النبيﷺ رأى في منامنه أنهﷺ قد دخل مكة مع أصحابه معتمرين محلقين رؤوسهم ومقصرين لا يخافون، كما قال الله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيباً}.
وهنا نتعلم أن الرؤيا المنامية نوع من الوحي وهي ما تبقى لنا من النبوة بعد موت النبيﷺ؛ فإذا كانت من غير النبيﷺ وجب سترها ويجوز تفسيرها حسب قواعدها وضوابطها  يعلمها من له العناية والدراية بها، ويمنع نشرها للعموم فلا يجوز كما يفعل اليوم البعض في القنوات المواقع الاجتماعية؛ لما جاء في الحديث أن النبيﷺ: «الرؤيا معلقة برجل طائر ما لم يُحَدِّث بها صاحبها، فإذا حدَّث بها وقعت، ولا تحدثوا بها إلا عالما أو ناصحا أو لبيبا، والرؤيا الصالحة جزء من أربعين جزأ من النبوة».
أما إذا كانت من النبيﷺ فهي شرع وشريعة، وجب الأخذ بها وامتثال أمرها؛ ولذلك بادر النبيﷺ بالاستجابة لها فورا، فتهيأ للعمرة والظروف لم تكن مواتية؛ فكفار قريش لا زالوا يسيطرون على مكة المكرمة، ويتحكمون في مناسك الحج والعمرة، وبينهم وبين النبيﷺ حرب طاحنة؛ باردة وساخنة، شهدت معارك كبيرة؛ منها غزوة بدر، وغزوة أحد، وغزوة الخندق، فكيف السبيل إذن إلى العمرة وتحقيق الرغبة، ولا يتم ذلك إلا بدخول مكة والطواف بالكعبة؟! ورغم ذلك فما كان للنبيﷺ إلا أن يأمر بالمسير لمكة، لابسا إحرامه ملبيا لأداء العمرة. 
فلما قطعﷺ مسافة تزيد عن 400 كيلومترا، وصل إلى مكان اسمه "الحديبية"، لا يبعد عن مكة إلا بحوالي 25 كيلومترا، فهناك توقفت به ناقتهﷺ المسماة بـ"القصواء" فرفضت المسير، فقال بعض الصحابة: خلأت القصواء، أي: تعبت من السفر، فقالﷺ: «لا والله؛ ما خلأت وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل»؛ إشارة إلى قصة الفيل الذي امتنع من المسير تعظيما لحرمة مكة؛ قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}..
ثم وقع ما كان متوقعا فقد منع كفار قريش النبيﷺ من الدخول إلى مكة. 
ثم بدأت المفاوضات بينهم وبين النبيﷺ، فأرسل من أجل ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه، فعرض عليه الكفار الطواف بالكعبة فرفض لأن النبيﷺ منع منها؛ تقديما للآداب على الأوامر، فقد أمر الله تعالى بالطواف ولكن تأدبا مع النبيﷺ امتنع عثمان عن الطواف. 
ثم جاءت رياح الإشاعات الكاذبة، فانتشر بين الصحابة أن قريشا قد قتلت سيدنا عثمان، فعزم النبيﷺ على الحرب والقتال إلى الموت، وبايعه الصحابة على ذلك تحت الشجرة بيعة الرضوان، ووضعﷺ يده على الأخرى فقال: «هذه لعثمان»: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيباً}، فتحول الصحابة من حمائم الإحرام والعمرة إلى أسود الحرب والمغامرة، ولكن ما لبث أن أطل عليهم عثمان ناجيا مسلَّما، لم يقتله أحد، ولم يعتد عليه أحد. 
ومن هنا نتعلم أن الإشاعات الكاذبة خطرها على المجتمع كبير، وأثرها خطير؛ فقد هتكت الأعراض، وشتتت الأسر ودمرت العائلات، لا يتعاطاها إلا شرار الناس، ينشرون في المجتمع بسمومهم البؤس والبأس والخوف واليأس، فقد كادت أن تكون سببا في مكة لحرب لو بدأت لا يعلم إلا الله كم من أرواح طاهرة ستزهق، ودماء بريئة ستهرق؟! ولكن الله سلم.
وبعد ذلك أسفرت هذه المفاوضات عن صلح يسمى في السيرة النبوية بـ"صلح الحديبية"، فأمرﷺ علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يكتب: «هذا ما اتفقت عليه قريش مع رسول اللهﷺ» فرفضت قريش وصف الرسولﷺ بالنبوة قائلين: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما خالفناك ولا حاربناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله فأمر رسول اللهﷺ عليا أن يمحو كلمة "رسول الله" فلم يستجب تقديما للآداب على الأوامر كما فعل عثمان في الطواف، فمحاهاﷺ بيده، ثم اتفقوا على بنود أثارت غضب الصحابة وعلى رأسهم عمر، وما استطاعوا قبولها ولا تحملها، ولكن الرسولﷺ قبِل بذلك فقال قبل توقيع المعاهدة: «لا يسألونني خطة  يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها». 
ثم أمر الرسولﷺ بالتحلل من العمرة؛ بالحلق، وذبح الهدي، وإزالة لباس الإحرام، فرفض الصحابة الاستجابة لهول ما نزل بهم من جراء قبولهﷺ بهذه البنود التي ظنوها ذلا وإهانة، بينما الرسولﷺ يراها فتحا ونصرا، وهنا دخل على زوجته أم سلمة فزعا مستغربا ليستشيرها، وهو يردد: «هلك الناس، هلك الناس»، فأشارت عليها بأن يحلق ويذبح هديه ولا يكلم أحدا، فعمل بمشورتها، فتبعه الصحابة فورا، فابتدروا الحلق والذبح كما فعلﷺ. 
ومن هنا نتعلم أن الاستشارة أمر لازم؛ فقد استشار النبيﷺ المرأة فأخذ برأيها، فكان فيه الحل لمشكل امتناع الصحابة عن امتثال الأوامر لأول مرة في حياتهﷺ؛ كما سبق في خطبة ذكرى زواج النبيﷺ بأم سلمة رضي الله عنها... 
إن عمرة الحديبية ليست مجرد حدث وقع ومضى، ومجرد أمر جاء وانقضى؛ بل هي مدرسة خلَّفت لنا أحكاما شرعية مهمة، وأخلاقا حسنة عظيمة؛ فليس "كورونا" أول مانع منع المسلمين من أداء المناسك في مكة المكرمة؛ فقد منع كفار مكة النبيﷺ في الحديبية من أداء العمرة، فنزل القرآن الكريم بأحكام المنع والإحصار من مكة {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} فصار يتلى على مر الأزمان.     
  أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين. 
 
الحمد لله رب العالمين… 
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ بهذا التحلل من العمرة في الحديبية كانت عمرتها عمرة مستقلة كاملة؛ لأن الله تعالى قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، والرسولﷺ يوم الحديبية غاية ما يستطيع هو التحلل من العمرة بالحلق وذبح الهدي، فكتب الله له ولأصحابه رضي الله عنهم أجر العمرة كاملة وإن لم يصلوا مكة؛ لأن من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة؛ وهنا نتعلم من هذا التأصيل فائدتين من أجل التنزيل في واقعنا اليوم بسبب كورونا:
الفائدة الأولى: أزف البشرى لأولئك الذين يحاولون التسجيل في الحج عن طريق القرعة لسنوات فلم يسعفهم الحظ، ولم يأت دورهم بعدُ، ليتعلموا أنهم في كل مرة تقدموا فيها للقرعة فإن الله تعالى يكتب لهم أجر الحج كاملا؛ لأن الله تعالى يجازي الإنسان على عمله إذا منع من أدائه كأنه قد عمله فعلا لا ينقص من أجره شيء؛ وخصوصا منهم حجاج هذه السنة الذين استعدوا للحج ودفعوا ثمنه، ولكنهم منعوا منه بسبب كورونا؛ فأقول لهم: إن الله تعالى قد كتب لكل واحد منكم أجر الحج مجانا وإن لم تسافروا ولم تزروا مكة، ثم في السنة المقبلة تكون لكم الحجة الثانية إن شاء الله؛ فهنيئا لكم حجتان في حجة. 
الفائدة الثانية: أزف بشرى أخرى لكل مسلم منع من المساجد اليوم بسبب كورونا؛ لأن الله تعالى يعطي المسلم الأجر الكامل في الصلاة في المساجد بشرط أن يكون محافظا عليها قبل كورونا؛ بدأ من ثواب رفع الخطوات للمساجد، إلى أجر الصفوف وتسويتها، إلى أجر الجماعة فيها؛ لا ينقص له من ذلك شيء؛ وهذا من فضل الله تعالى أن يجازيك على عمل حسب نيتك وإن لم يصدر منك؛ فماذا يريد المسلم من عمله غير الأجر عند الله؛ فمن يستهدف في المساجد غير الأجر يخشى عليه الوقوع في الشرك الأصغر من الرياء والسمعة؛ فهذه عمرة الحديبية قد سجل الله تعالى أجرها كاملة للنبيﷺ وللصحابة الذين معه،  ولم يَصِلْ منهم أحد إلى مكة، ولم يُصَلِّ منهم أحد في مسجدها؛ فحتى عثمان بن عفان رضي الله عنه يوم الحديبية حين عُرض عليه الطواف والسعي لإتمام عمرته رفض فكان له برفضه لها أجرُها...
فلا داعي لإثارة الوسواس والقلاقل، ونشر التشويش والبلابل؛ ومن الغباوة من يقول: لماذا فتحت المسابح ولم تفتح المساجد؟! فقياس المساجد على المسابح قياس مع الفروق؛ والمسلم لا يريد ولا يتمنى أن يصاب بكورونا من يسبح ولا من يسجد؛ وحساب الكل عند الله تعالى؛ ولكن لأن تسمع بمئات المصابين بسبب المسابح أهون من أن تسمع بمصاب واحد بسبب المساجد؛ وكلنا يعلم أن أعداء الإسلام ينتظرون أي فرصة لاستغلالها في ضرب الإسلام؛ فالمساجد لها وزارة تتكلف بها وتتكفل بنظامها؛ فلا داعي للتسرع واستباق الأحداث، ولا داعي لوضع الحصان أمام العربة كما يقال. 
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ…



__________________
هذه الخطبة ليست للإلقاء؛ وإنما من أجل ألا ننسى نكهة الجمعة ونحن في الحجر الصحي
وهي بالمناسَبة، لعلها تكون مناسِبة لمن أحب أن يستأنس بها، أو يختصرها، أو يقتصر على بعضها، أو يوظفها بعد أن ينظفها، فينقحها من أخطائي ليلقحها بأفكاره والرجاء منه أمران:
1) الدعاء لي -بعد الإخلاص- عن ظهر الغيب.
2) غض البصر -بعد الإصلاح- عما فيها من العيب.
ودعواتكم رأس مالي ورصيد اعتمادي
11 ذو القعدة 1441هـ 3 / 7 / 2020م. 
خادمكم عبد الله بنطاهر

هناك 4 تعليقات:

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أحيي السادة القائمين على هذا الموقع وأنوه بمجهوداتكم المباركة، إلا أن الموقع ياسادة ليس محميا بالنسبة التي يطمئن لها، فإن فيه ثغرات وتشويشات لاتخفى على من يتصفحه باستمرار
    فأتمنى أن يستدرك هذا الأمر في القريب العاجل حتى يؤتي هذا الركن المحترم أكله المنشود.
    مع تحيات أخ محب ومتابع مخلص وغيور على الحقل الديني ببلدنا المغرب

    ردحذف
  2. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
    شكرا على تقيمكم ونحن سعداء بتواجدكم معناسنبدل جهدنا لتطمئنوا وانتم تتصفحون موقعكم "أئمةالمغرب"

    ردحذف
  3. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
    شكرا على تقيمكم ونحن سعداء بتواجدكم معناسنبدل جهدنا لتطمئنوا وانتم تتصفحون موقعكم "أئمةالمغرب"

    ردحذف
  4. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
    شكرا على تقيمكم ونحن سعداء بتواجدكم معناسنبدل جهدنا لتطمئنوا وانتم تتصفحون موقعكم "أئمةالمغرب"

    ردحذف

نسعد بتعليقاتكم ومقترحاتم تهمنا