سلسلة الحج المبرور - أربع خطب حول فريضة الحج
أئمةمروك -إعداد عبدالله بنطاهر
1) من شروط الحج المبرور زاد التقوى .
الحمد لله الذي أكرم الأمة بالحج إلى البيت العتيق، فقصده الحجاج على كل ضامر ومن كل فج عميق، وهوت إليه الأفئدة من كل أوب سحيق، وأشهد أن لا إله إلا الله شرع الحج لينقد به المسلم من بحر ذنوبه العميق، وجعل فيه زاد التقوى ملاذ كل غريق، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله هو بالمؤمنين رحيم وشفيق، بين لنا أن الحج المبرور بمكارم الأخلاق جدير وحقيق، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه مادم في الدنيا من يتمسك بالعروة الوثقى والعهد الوثيق.
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
قد كنا جميعا نعيش نفحات موسم رمضان، موسم الصيام والقيام، موسم مدارسة القرآن، موسم الفضل والإحسان. دعونا في خطبة اليوم انتقل بكم إلى موسم آخر من مواسم الفلاح والخير، والمسلم لا يكاد ينتهي من موسم رباني حتى يستقبله آخر، وها هو موسم الحج قد آن منه الأوان، وهاهم الحجاج يحضرون للدروس استعدادا لضيافة الرحمن، في موسم البر والإحسان، في موسم ينخرط فيه الحجاج ضمن وفد الكريم المنان، في موسم التجرد من شهوات الحيوان، في موسم يولد فيه من جديد الإنسان، في موسم يتباهى الله تعالى فيه بهذا الإنسان، فيسمو إلى مراتب الملائكة البررة الكرام، في موسم يقول عنه النبيﷺ فيما روى النسائي وابن حبان: "الحجاج والعمار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم". ذلكم الموسم المبارك الذي يقول عنه النبيﷺ: "أفضل الجهاد حج مبرور" وفي رواية "أفضل الأعمال حج مبرور" وفي رواية "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
إن الحج –يا عباد الله- عبادة عظيمة، ذات فضل كبير، يقصده الزوار من كل فج عميق، ومن كل أوب سحيق، شعثا غبرا، متواضعين لرب البيت، خضوعا لجلاله واستكانة لعزته، يهدف الحاج منه إلى تحقيق مبدأ التقوى في معاملاته، وتثبيت الأخلاق الكريمة في سلوكه، يدفع في أداءه الغالي من ماله، والنفيس من نفسه، ويتحمل فيه مشقات الأسفار، ومعاناة البعد عن الأهل والأحباب، راجيا أن يكون حجه مبرورا، يمحو الله به خطاياه، ويغفر به ذنوبه، فينال من الله سبحانه جنة الفردوس، والله تعالى يقول: {وتزودوا فإن خبر الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب} ويقول سبحانه في ذبائح الحج: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم}
والرسولﷺ يقول فيما روى البخاري ومسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". وفيما روى الترمذي وابن خزيمة وابن حبان أنهﷺ قال: "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة" قال الترمذي :حديث حسن صحيح. وفوق ذلكم الفضل العظيم فالحج مؤتمر مغلق لا يحضره إلا المسلمون، والله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}،
ولقد أحسن من قال:
إني أرى الحج في الإسلام مؤتمرا***المسلمون على التحقيق أعضاه
دستوره شرعة الإسلام يرسمها***هدي النبي وعين الحق ترعاه
العدل منهجه والعلم حجته***تجردوا فيه لا ملك ولا جاه
فهم جنود الهدى فيه نشيدهمو***لبيك لبيك أنت الله رباه
منزل النور والتنزيـل مأرزه***فالدين يأرز للأوطان مأواه
فالحج درس عظيم شيق عظمت***أسرار تشريعه تجلو مزاياه
مهذب لنفوس طالما ركنت***إلى حضيض الهوى تقفو خطاياه
إني أرى الحج في الإسلام مؤتمرا***المسلمون على التحقيق أعضاه
دستوره شرعة الإسلام يرسمها***هدي النبي وعين الحق ترعاه
العدل منهجه والعلم حجته***تجردوا فيه لا ملك ولا جاه
فهم جنود الهدى فيه نشيدهمو***لبيك لبيك أنت الله رباه
منزل النور والتنزيـل مأرزه***فالدين يأرز للأوطان مأواه
فالحج درس عظيم شيق عظمت***أسرار تشريعه تجلو مزاياه
مهذب لنفوس طالما ركنت***إلى حضيض الهوى تقفو خطاياه
ومن أجل تحقيق هذه الأهداف والحصول على هذا الفضل العميم، أوجب الإسلام على الحاج الابتعاد عن كل ما يخرِم جمال هذه العبادة وينقص من قدرها، من الرفث والفسوق والجدال، ومنازع الشهوات والشيطان، والكلام الساقط التافه وإن كان لا يضر ولا ينفع، ومن باب أولى وأحرى الكلام الذي يضر ولا ينفع من الغيبة والنميمة والكذب.
فقال سبحانه وتعالى: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} وقالﷺ فيما روى البخاري ومسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه» والرفث يطلق على أمور ثلاثة ينبغي للحاج الابتعاد عنها إذا أراد أن يكون حجه مقبولا عند الله سبحانه، يطلق على المباشرة الجنسية: الجماع، ويطلق على مقدمات الجماع من كلام الشهوة والنظر بالشهوة واللمس بالشهوة،
ويطلق على كل كلام لا فائدة فيه. أما الفسوق فهو اسم عام، يطلق على كل ما خالف شرع الله تعالى. وأما الجدال فهو ممنوع أثناء الإحرام متى كان يتعلق بشؤون الدنيا، وإذا تعلق بشؤون علمية على العموم، وبمناسك الحج على الخصوص، وكان المقصود منه إحقاقَ الحق، وإزهاقَ الباطل فلا منع ولا إثم.
وبهذا -يا عباد الله- يكون الحج مدرسة أخلاقية تربوية قبل أن يكون عبادة ربانية، يتخرج منها المسلم طاهرا، متسلحا بالأخلاق الرفيعة، منسلخا عن الأخلاق الوضيعة، حليما صبورا، يعتدى عليه فيصبر، ويغضب فيملك نفسه، فإن سابه أحد أو قاتله قال: {سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} وكيف لا والحج يفرض عليه أن ينسلخ من ألصق أوصاف الإنسان وهو الجدال {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا}.
وبهذا يتعلم المسلم من مدرسة الحج، كيف يتحكم في نفسه الأمارة فلا يستسلم لهواها، وكيف يملك لسانه فلا يحصد به الأعراض ولا يتتبع عوراتها، وكيف يغض بصره فلا يتتبع عورات المرأة ولا يستسلم لشهواتها، لأن الحج امتحان وابتلاء، والامتحان مبني أساسا على المحنة والحرمان. لقد امتحن الله في مكان الحج سيدنا إبراهيم عليه السلام حين أمره الله تعالى بذبح ابنه الوحيد، فاستجاب واستسلم، فنحج في الامتحان ففاز وغنم، ففدى الله ابنه بذبح عظيم، فكان جديرا بهذا المكان أن يكون موسما للامتحان، على مر العصور والأزمان.
ولكن مع الأسف لازال بعض الحجاج لم يكونوا في مستوى هذه الأهداف النبيلة، وهذه الأخلاق الكريمة، وهذه المدرسة التربوية العظيمة، فقليل أولئك الحجاج الذين ليس لهم في الجدال نصيب، إما عن جهل، وإما عن تهور، فتراهم لا يعرفون للنظام معنى، فيندفعون بجهالة، ويتدافعون بحماقة، أفعالهم في الغالب عنف وأنانية، وأقوالهم شتم وسباب، يمارسون للحصول على أي شيء الجدال بالتي هي أخشن، لأسباب تافهة، وضروريات يقتضيها وضعية الموسم، من الزحام الشديد، والحر المديد، وإنك لترى المغاربة بالخصوص عند ركوب الطائرة يتزاحمون دون نظام، وعند ركوب الحافلة يتخاصمون بكل وقاحة، وعند السكن يتشاجرون بكل خشونة، على نوعية السكن وموقعه، كأنهم جاءوا للترفيه والاستجمام، وعند أداء المناسك في الطواف والسعي والجمرات يتقاتلون دون رحمة، كأنهم في معركة قد حمي وطيسها. ويخافون من أشياء لا وجود لها، ويحملون هموما لا مبرر لها. وإن من العجب العجاب أن ترى بعض الحجاج يجتنبون محرمات الإحرام من الروائح الطيبة، وقلم الأظفار، وإزالة الأشعار، فلا يرتكبونها ولا يقتربون منها،
ولكن محرمات الإسلام من الغيبة والنميمة والسباب والشتائم والتدخين وتتبع عورات الناس، فهم يقتحمونها بكل وقاحة، ويرتكبونها مع سبق الإصرار والترصد. ألا إن محرمات الإسلام قد سبقت محرمات الإحرام! فكيف يحافظ على محرمات الإحرام من ضيع محرمات الإسلام. وأعجب من هذا أنهم إذا رجعوا إلى بلادهم وأهليهم يتحدثون أمام الناس بكل افتخار واعتزاز بأنهم جادلوا فلانا وفلانا فانتصروا، يحكون هذه الانتصارات الموهومة بملء أفواههم، كأنهم انتصروا على الصهاينة فحرروا القدس وفلسطين، يا ليتهم سكتوا إذ فعلوها،
والرسولﷺ يقول: «من بلي منكم بشيء من هذه القذورات فليستتر». ناسين أو متناسين أنهم بذلك يضيعون أهم أسس الحج وأجل أهدافه، بل قد يرجعون منه محملين بأسوأ الذنوب وأعظمها، لأن مجرد الهم بالسيئة ومجرد التفكير في ارتكابها بمكة، يعد عند الله جريمة كبرى، فكيف بمن يرتكبها ويمارسها، فاقرءوا إن شئتم قوله سبحانه: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب اليم}،
وروى الإمام أحمد أن الرسولﷺ قال: «لو أن رجلا هم فيه بإلحاد وهو (بعدن أبين) لأذاقه الله عز وجل عذابا أليما» والمراد بالإلحاد والظلم في الآية الكريمة كل ما يؤدي إلى ارتكاب محرمات الإسلام ومحرمات الإحرام، فمجرد إرادة الإلحاد وقصد الظلم جريمة يستوجب صاحبُها العذاب الأليم، فإذا كانت العبادة في مكة بمائة ألف، فإن الجريمة أيضا قد تكون بمائة ألف.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون! بما أن من أهداف الحج إصلاحَ المسلم وتدريبه على اعتياد الأخلاق الحسنة، وذلك بالتحلي بالفضائل والتخلى عن الرذائل فلا بد من أن تتزود -أخي الحاج- بالتقوى، وهذا لا يتم إلا بالالتزام بهذه الإرشادات الأخلاقية التالية:
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون! بما أن من أهداف الحج إصلاحَ المسلم وتدريبه على اعتياد الأخلاق الحسنة، وذلك بالتحلي بالفضائل والتخلى عن الرذائل فلا بد من أن تتزود -أخي الحاج- بالتقوى، وهذا لا يتم إلا بالالتزام بهذه الإرشادات الأخلاقية التالية:
أولا: إذا عزمت على أداء فريضة الحج ينبغي أن تتعلم مناسكه وأحكامه وأيامه، بواسطة الكتب المتوفرة في المكتبات، وبواسطة الدروس المنتشرة في المساجد، وبواسطة عقد الجلسات الخاصة مع العلماء؛ وخصوصا الذين لهم الخبرة الميدانية بالحج ومشاعره، والذين يوضحون المناسك بالمجسمات والصور، وقد بدأ هذه الظاهرة المباركة
تعم في مساجد المدينة ولله الحمد، لأن الله تعالى لا يعبد بالجهل، إذ ليس من المعقول أن يتجهز المسلم إلى الحج ماديا، ويتحمل تلك الصعاب كلها وهو لا يدري شيئا من مناسكه، فيقلد هناك غيره، أو يسير على غير هدى.
ثانيا: تذكر دائما أنك تمثل بلادك ووطنك وأهلك فكن خير سفير لهم بالمحافظة على النظام والأخلاق الحسنة. وضع نصب عينك دائما أن علامة الإنسان المتحضر من بلاد الحضارة هو النظام لتحافظ عليه، وأن علامة الإنسان المتخلف من بلاد الخسارة هو الفوضى لتجتنب أسبابها.
ثالثا: اعلم أن مقعدك بالطائرة والحافلة وكذا مسكنك في الفندق مضمون، فلا حاجة للمسابقة والازدحام للحصول عليه كما يفعل بعض الحجاج سامحهم الله، فيندفعون ويتدافعون، فتنشأ عن ذلك فوضى لا تليق بأخلاق الإنسان كإنسان؛ فكيف بأخلاق المسلم؛ وكيف بأخلاق المسلم المقبل على أداء فريضة الحج.
رابعا: تسلح دوما بالحلم والصبر فإن وضعية الموسم وكثرة الحجاج يفرض عليك أن تتعامل بالحلم والصبر. لا تزاحم ولا تندفع ولا تدفع ولا تسب ولا تجادل أحدا فإن ذلك ينقص من حجك.
خامسا: ينبغي لك أن تعطي الأسبقية للنساء والحجاج العجزة والمرضى عند ركوب الطائرة والحافلة، وفي الفندق في مكة والمدينة، وفي المشاعر.
سادسا: اعقد نيتك على أن تقدم المساعدة لكل من يحتاج إليها على قدر استطاعتك؛ ليحصل لك أجر من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة.
سابعا: حاول أن تقدم المساعدة -ما استطعت- لكل من احتاج إليها من الضعفاء والمرضى والتائهين بغض النظر عن جنسياتهم، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. ومن باب أولى وأحرى إذا كان أحدهم ضمن رفقتك.
ثامنا: حافظ وأنت في عبادة الحج على صادات أربعة:
الصاد الأول: الصبر فيجب التزامه.
الصاد الثاني: الصحة فيجب المحافظة عليها.
الصاد الثالث: الصاحب فيجب أن تتعاون معه.
الصاد الرابع: الصرف والمراد به نقودك فيجب المحافظة عليها.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ...
******************
2) من شروط الحج المبرور الزاد الحلال
2) من شروط الحج المبرور الزاد الحلال
الحمد لله جعل الحج المبرور كفارة للذنوب، ووعد حجاج بيت الله بقضاء كل مرغوب، وبجزاء في الجنة تطمئن له القلوب، وأشهد أن لا إله إلا الله علام الغيوب، إليه سبحانه وتعالى نرجع ونتوب، وهو سبحانه وتعالى يمحو الخطايا ويستر العيوب، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المحبوب، بشرعه تنكشف عنا الفتن والخطوب، وتزول عنا الهموم والكروب، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين نشروا دين الله في أقصى الشروق وأقصى الغروب، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الحساب. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك.
أما بعد فيا أيها المؤمنون! أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
أما بعد فيا أيها المؤمنون! أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
قد قدمنا لكم في الجمعة الماضية أن ثواب الحج عظيم، فهو إن كان مبرورا يمحو الذنوب، ويفتح أبوب الجنة، وهو أفضل الجهاد وأفضل الأعمال.
ولكن الحج لا يكون مبرورا إلا بشروط، وقد قدمنا لكم، أن من شروط الحج المبرور زاد التقوى في الأخلاق والمعاملات والله تعالى يقول: {وتزودوا فإن خبر الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب}.
فتعالوا بنا اليوم نرفع الستار عن شرط آخر من شروط الحج المبرور، لابد منه إذا أراد المسلم أن يغفر الله ذنوبه، فيفوز بتأشرة الدخول إلى جنات النعيم، ألا وهو الزاد الحلال. المال الحلال والنفقة الطيبة، لأن الحج المبرور من الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة إنما تأتي بعد المال الصالح والأكل الطيب والله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من الطيبات واعملوا صالحا}،
روى الطبراني والبزار بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللهﷺ: «إذا خرج الحاج حاجا بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز –أي المركوب- فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور غير مأزور، أي مقبول مطهر من الآثام- وإذا خرج الحاج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناده مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك مأزور غير مبرور»(1) أي جلب لك الوزر والذنب، وزادك سخطا وبعدا.
ورحم الله من قال:
وحــج بمال من حلال عرفته***وإيــاك والمـال الحـرام وإيـاه
فمن كــان بالمال المحرم حجه***فعـن حجــه والله ما كان أغناه
إذا هو لبــى الله كان جوابه***مـن الله لا لبيك حــج رددنـاه
كذاك روينا في الحديث مسطرا***وما جاء في كتب الحديث سطرناه(2)
وحــج بمال من حلال عرفته***وإيــاك والمـال الحـرام وإيـاه
فمن كــان بالمال المحرم حجه***فعـن حجــه والله ما كان أغناه
إذا هو لبــى الله كان جوابه***مـن الله لا لبيك حــج رددنـاه
كذاك روينا في الحديث مسطرا***وما جاء في كتب الحديث سطرناه(2)
ومن قال:
إذا حججت بمال أصله سحت***فما حججت ولكن حجت العير
لا يقبل الله إلا كلَّ خالصـة***ما كلُّ من حج بيت الله مـبرور
فكيف يحج بيت الله الحرام من بطنه مليء بالحرام والرسولﷺ يقول: «والذي نفس محمد بيده، إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه، ما يتقبل منه عمل أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به»؟
وكيف يحج بيت الله من أعلن الحرب ضد الله بالربا والله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فادنوا بحرب من الله ورسوله}؟
وكيف يسعى بين الصفا والمروة أصحاب حانات الخمور و(ساكات) التدخين، وقد سعوا هنا في نشر فواحش السموم بين المسلمين، وكدروا بها صفاء إيمان المؤمنين، والله تعالى يقول: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة}؟
وكيف يقف بعرفات الله من عرف أن ماله من الرشوة، وكاهله مثقل باللعنة «وقد لعن الرسولﷺ الراشي والمرتشي والرائش»؟
وكيف يبيت بمنى من حطم أمنيات الفقراء وأكل أجور عماله، والرسولﷺ يقول في الحديث القدسي الجليل: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة –وعد منها- رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره»؟
وكيف يزور القبر الشريف من جلب ماله من الغش في البيع والشراء، فيبيع السلع مغشوشة، أو يحلف على ثمنها كاذبا، والرسولﷺ يتبرأ من الغش وصاحبه إذ يقول: «من غشنا فليس منا»؟ وكيف يسلم على القبر الشريف من تبرأ منه صاحب القبر الشريفﷺ؟
وفي الحقيقة يا عباد الله أن المال الحلال ليس شرطا في الحج فحسب، بل هو شرط في قبول كل عمل يقوم به المسلم، من دعاء وصلاة وزكاة وصيام ونفقة وقرض وشركة وبيع وشراء. والرسولﷺ يقول في الحديث الصحيح: «إن الله طيب ولا يقبل إلا طيبا» والمسلم سوف يجد يوم القيامة في ماله سؤالين عريضين طويلين: «من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟» كما قال الرسولﷺ، وقد كانﷺ يحذر الأمة من فتنة المال، فيقول فيما روى الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح: «إن لكل أمة فتنة وإن فتنة أمتي المال».
وليس معنى هذا الحديث أن مجرد المال فتنة ومصيبة؛ بل مبدأ الإسلام: «نعم المال الصالح في يد الرجل الصالح»، والمال إنما يكون فتنة على صاحبه بسب أحد من أمور أربعة: إذ اكتسبه من الحرام، أو أنفقه في الحرام، أو ضيع واجباته المالية من الزكاة والنفقة والصدقة، أو منعه ماله من أداء واجباته من حقوق ربه كالصلاة والصيام، وحقوق نفسه وزوجته وأهله، وطاعة أبيه وأمه، وحقوق جيرانه وإخوانه.
وقد بين لنا الرسولﷺ النتائج الوخيمة التي يحصل عليها من يكتسب ماله من الحرام، فهو خاسر على كل حال، وإن أنفقه على نفسه لم يبارك الله فيه، وإن تصدق به لم يقبل منه، وإن بقي بعده كان زاده إلى النار، يقولﷺ فيما روى الإمام أحمد: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله عز وجل يعطي الدنيا من أحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذيرغبة من بعض الائمة اعيد نشر أربع خطب في شروط الحج المبرور
وهي خطب بالمناسَبة، لعلها تكون مناسِبة لمن أحب أن يستأنس بها، أو يختصرها، أو يقتصر على بعضها، أو يوظفها بعد أن ينظفها، فينقحها من أخطائي ليلقحها بأفكاره والرجاء منه أمران:
1) الدعاء لي -بعد الإخلاص- عن ظهر الغيب.
2) غض البصر -بعد الإصلاح- عما فيها من العيب.
لبسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
******************
1) من شروط الحج المبرور زاد التقوى
13 شوال 1425 هـ 25 / 11/ 2004 م
الحمد لله الذي أكرم الأمة بالحج إلى البيت العتيق، فقصده الحجاج على كل ضامر ومن كل فج عميق، وهوت إليه الأفئدة من كل أوب سحيق، وأشهد أن لا إله إلا الله شرع الحج لينقد به المسلم من بحر ذنوبه العميق، وجعل فيه زاد التقوى ملاذ كل غريق، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله هو بالمؤمنين رحيم وشفيق، بين لنا أن الحج المبرور بمكارم الأخلاق جدير وحقيق، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه مادم في الدنيا من يتمسك بالعروة الوثقى والعهد الوثيق.
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
قد كنا جميعا نعيش نفحات موسم رمضان، موسم الصيام والقيام، موسم مدارسة القرآن، موسم الفضل والإحسان. دعونا في خطبة اليوم انتقل بكم إلى موسم آخر من مواسم الفلاح والخير، والمسلم لا يكاد ينتهي من موسم رباني حتى يستقبله آخر، وها هو موسم الحج قد آن منه الأوان، وهاهم الحجاج يحضرون للدروس استعدادا لضيافة الرحمن، في موسم البر والإحسان، في موسم ينخرط فيه الحجاج ضمن وفد الكريم المنان، في موسم التجرد من شهوات الحيوان، في موسم يولد فيه من جديد الإنسان، في موسم يتباهى الله تعالى فيه بهذا الإنسان، فيسمو إلى مراتب الملائكة البررة الكرام، في موسم يقول عنه النبيﷺ فيما روى النسائي وابن حبان: "الحجاج والعمار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم". ذلكم الموسم المبارك الذي يقول عنه النبيﷺ: "أفضل الجهاد حج مبرور" وفي رواية "أفضل الأعمال حج مبرور" وفي رواية "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
إن الحج –يا عباد الله- عبادة عظيمة، ذات فضل كبير، يقصده الزوار من كل فج عميق، ومن كل أوب سحيق، شعثا غبرا، متواضعين لرب البيت، خضوعا لجلاله واستكانة لعزته، يهدف الحاج منه إلى تحقيق مبدأ التقوى في معاملاته، وتثبيت الأخلاق الكريمة في سلوكه، يدفع في أداءه الغالي من ماله، والنفيس من نفسه، ويتحمل فيه مشقات الأسفار، ومعاناة البعد عن الأهل والأحباب، راجيا أن يكون حجه مبرورا، يمحو الله به خطاياه، ويغفر به ذنوبه، فينال من الله سبحانه جنة الفردوس، والله تعالى يقول: {وتزودوا فإن خبر الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب} ويقول سبحانه في ذبائح الحج: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} والرسولﷺ يقول فيما روى البخاري ومسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". وفيما روى الترمذي وابن خزيمة وابن حبان أنهﷺ قال: "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة" قال الترمذي :حديث حسن صحيح. وفوق ذلكم الفضل العظيم فالحج مؤتمر مغلق لا يحضره إلا المسلمون، والله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}، ولقد أحسن من قال:
إني أرى الحج في الإسلام مؤتمرا***المسلمون على التحقيق أعضاه
دستوره شرعة الإسلام يرسمها***هدي النبي وعين الحق ترعاه
العدل منهجه والعلم حجته***تجردوا فيه لا ملك ولا جاه
فهم جنود الهدى فيه نشيدهمو***لبيك لبيك أنت الله رباه
منزل النور والتنزيـل مأرزه***فالدين يأرز للأوطان مأواه
فالحج درس عظيم شيق عظمت***أسرار تشريعه تجلو مزاياه
مهذب لنفوس طالما ركنت***إلى حضيض الهوى تقفو خطاياه
ومن أجل تحقيق هذه الأهداف والحصول على هذا الفضل العميم، أوجب الإسلام على الحاج الابتعاد عن كل ما يخرِم جمال هذه العبادة وينقص من قدرها، من الرفث والفسوق والجدال، ومنازع الشهوات والشيطان، والكلام الساقط التافه وإن كان لا يضر ولا ينفع، ومن باب أولى وأحرى الكلام الذي يضر ولا ينفع من الغيبة والنميمة والكذب. فقال سبحانه وتعالى: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} وقالﷺ فيما روى البخاري ومسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه» والرفث يطلق على أمور ثلاثة ينبغي للحاج الابتعاد عنها إذا أراد أن يكون حجه مقبولا عند الله سبحانه، يطلق على المباشرة الجنسية: الجماع، ويطلق على مقدمات الجماع من كلام الشهوة والنظر بالشهوة واللمس بالشهوة، ويطلق على كل كلام لا فائدة فيه. أما الفسوق فهو اسم عام، يطلق على كل ما خالف شرع الله تعالى. وأما الجدال فهو ممنوع أثناء الإحرام متى كان يتعلق بشؤون الدنيا، وإذا تعلق بشؤون علمية على العموم، وبمناسك الحج على الخصوص، وكان المقصود منه إحقاقَ الحق، وإزهاقَ الباطل فلا منع ولا إثم.
وبهذا -يا عباد الله- يكون الحج مدرسة أخلاقية تربوية قبل أن يكون عبادة ربانية، يتخرج منها المسلم طاهرا، متسلحا بالأخلاق الرفيعة، منسلخا عن الأخلاق الوضيعة، حليما صبورا، يعتدى عليه فيصبر، ويغضب فيملك نفسه، فإن سابه أحد أو قاتله قال: {سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} وكيف لا والحج يفرض عليه أن ينسلخ من ألصق أوصاف الإنسان وهو الجدال {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا}.
وبهذا يتعلم المسلم من مدرسة الحج، كيف يتحكم في نفسه الأمارة فلا يستسلم لهواها، وكيف يملك لسانه فلا يحصد به الأعراض ولا يتتبع عوراتها، وكيف يغض بصره فلا يتتبع عورات المرأة ولا يستسلم لشهواتها، لأن الحج امتحان وابتلاء، والامتحان مبني أساسا على المحنة والحرمان. لقد امتحن الله في مكان الحج سيدنا إبراهيم عليه السلام حين أمره الله تعالى بذبح ابنه الوحيد، فاستجاب واستسلم، فنحج في الامتحان ففاز وغنم، ففدى الله ابنه بذبح عظيم، فكان جديرا بهذا المكان أن يكون موسما للامتحان، على مر العصور والأزمان.
ولكن مع الأسف لازال بعض الحجاج لم يكونوا في مستوى هذه الأهداف النبيلة، وهذه الأخلاق الكريمة، وهذه المدرسة التربوية العظيمة، فقليل أولئك الحجاج الذين ليس لهم في الجدال نصيب، إما عن جهل، وإما عن تهور، فتراهم لا يعرفون للنظام معنى، فيندفعون بجهالة، ويتدافعون بحماقة، أفعالهم في الغالب عنف وأنانية، وأقوالهم شتم وسباب، يمارسون للحصول على أي شيء الجدال بالتي هي أخشن، لأسباب تافهة، وضروريات يقتضيها وضعية الموسم، من الزحام الشديد، والحر المديد، وإنك لترى المغاربة بالخصوص عند ركوب الطائرة يتزاحمون دون نظام، وعند ركوب الحافلة يتخاصمون بكل وقاحة، وعند السكن يتشاجرون بكل خشونة، على نوعية السكن وموقعه، كأنهم جاءوا للترفيه والاستجمام، وعند أداء المناسك في الطواف والسعي والجمرات يتقاتلون دون رحمة، كأنهم في معركة قد حمي وطيسها. ويخافون من أشياء لا وجود لها، ويحملون هموما لا مبرر لها. وإن من العجب العجاب أن ترى بعض الحجاج يجتنبون محرمات الإحرام من الروائح الطيبة، وقلم الأظفار، وإزالة الأشعار، فلا يرتكبونها ولا يقتربون منها، ولكن محرمات الإسلام من الغيبة والنميمة والسباب والشتائم والتدخين وتتبع عورات الناس، فهم يقتحمونها بكل وقاحة، ويرتكبونها مع سبق الإصرار والترصد. ألا إن محرمات الإسلام قد سبقت محرمات الإحرام! فكيف يحافظ على محرمات الإحرام من ضيع محرمات الإسلام. وأعجب من هذا أنهم إذا رجعوا إلى بلادهم وأهليهم يتحدثون أمام الناس بكل افتخار واعتزاز بأنهم جادلوا فلانا وفلانا فانتصروا، يحكون هذه الانتصارات الموهومة بملء أفواههم، كأنهم انتصروا على الصهاينة فحرروا القدس وفلسطين، يا ليتهم سكتوا إذ فعلوها، والرسولﷺ يقول: «من بلي منكم بشيء من هذه القذورات فليستتر». ناسين أو متناسين أنهم بذلك يضيعون أهم أسس الحج وأجل أهدافه، بل قد يرجعون منه محملين بأسوأ الذنوب وأعظمها، لأن مجرد الهم بالسيئة ومجرد التفكير في ارتكابها بمكة، يعد عند الله جريمة كبرى، فكيف بمن يرتكبها ويمارسها، فاقرءوا إن شئتم قوله سبحانه: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب اليم}، وروى الإمام أحمد أن الرسولﷺ قال: «لو أن رجلا هم فيه بإلحاد وهو (بعدن أبين) لأذاقه الله عز وجل عذابا أليما» والمراد بالإلحاد والظلم في الآية الكريمة كل ما يؤدي إلى ارتكاب محرمات الإسلام ومحرمات الإحرام، فمجرد إرادة الإلحاد وقصد الظلم جريمة يستوجب صاحبُها العذاب الأليم، فإذا كانت العبادة في مكة بمائة ألف، فإن الجريمة أيضا قد تكون بمائة ألف.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون! بما أن من أهداف الحج إصلاحَ المسلم وتدريبه على اعتياد الأخلاق الحسنة، وذلك بالتحلي بالفضائل والتخلى عن الرذائل فلا بد من أن تتزود -أخي الحاج- بالتقوى، وهذا لا يتم إلا بالالتزام بهذه الإرشادات الأخلاقية التالية:
أولا: إذا عزمت على أداء فريضة الحج ينبغي أن تتعلم مناسكه وأحكامه وأيامه، بواسطة الكتب المتوفرة في المكتبات، وبواسطة الدروس المنتشرة في المساجد، وبواسطة عقد الجلسات الخاصة مع العلماء؛ وخصوصا الذين لهم الخبرة الميدانية بالحج ومشاعره، والذين يوضحون المناسك بالمجسمات والصور، وقد بدأ هذه الظاهرة المباركة تعم في مساجد المدينة ولله الحمد، لأن الله تعالى لا يعبد بالجهل، إذ ليس من المعقول أن يتجهز المسلم إلى الحج ماديا، ويتحمل تلك الصعاب كلها وهو لا يدري شيئا من مناسكه، فيقلد هناك غيره، أو يسير على غير هدى.
ثانيا: تذكر دائما أنك تمثل بلادك ووطنك وأهلك فكن خير سفير لهم بالمحافظة على النظام والأخلاق الحسنة. وضع نصب عينك دائما أن علامة الإنسان المتحضر من بلاد الحضارة هو النظام لتحافظ عليه، وأن علامة الإنسان المتخلف من بلاد الخسارة هو الفوضى لتجتنب أسبابها.
ثالثا: اعلم أن مقعدك بالطائرة والحافلة وكذا مسكنك في الفندق مضمون، فلا حاجة للمسابقة والازدحام للحصول عليه كما يفعل بعض الحجاج سامحهم الله، فيندفعون ويتدافعون، فتنشأ عن ذلك فوضى لا تليق بأخلاق الإنسان كإنسان؛ فكيف بأخلاق المسلم؛ وكيف بأخلاق المسلم المقبل على أداء فريضة الحج.
رابعا: تسلح دوما بالحلم والصبر فإن وضعية الموسم وكثرة الحجاج يفرض عليك أن تتعامل بالحلم والصبر. لا تزاحم ولا تندفع ولا تدفع ولا تسب ولا تجادل أحدا فإن ذلك ينقص من حجك.
خامسا: ينبغي لك أن تعطي الأسبقية للنساء والحجاج العجزة والمرضى عند ركوب الطائرة والحافلة، وفي الفندق في مكة والمدينة، وفي المشاعر.
سادسا: اعقد نيتك على أن تقدم المساعدة لكل من يحتاج إليها على قدر استطاعتك؛ ليحصل لك أجر من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة.
سابعا: حاول أن تقدم المساعدة -ما استطعت- لكل من احتاج إليها من الضعفاء والمرضى والتائهين بغض النظر عن جنسياتهم، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. ومن باب أولى وأحرى إذا كان أحدهم ضمن رفقتك.
ثامنا: حافظ وأنت في عبادة الحج على صادات أربعة:
الصاد الأول: الصبر فيجب التزامه.
الصاد الثاني: الصحة فيجب المحافظة عليها.
الصاد الثالث: الصاحب فيجب أن تتعاون معه.
الصاد الرابع: الصرف والمراد به نقودك فيجب المحافظة عليها.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ...
******************
2) من شروط الحج المبرور الزاد الحلال
27 شوال 1425 هـ 10 / 12/ 2004 م
الحمد لله جعل الحج المبرور كفارة للذنوب، ووعد حجاج بيت الله بقضاء كل مرغوب، وبجزاء في الجنة تطمئن له القلوب، وأشهد أن لا إله إلا الله علام الغيوب، إليه سبحانه وتعالى نرجع ونتوب، وهو سبحانه وتعالى يمحو الخطايا ويستر العيوب، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المحبوب، بشرعه تنكشف عنا الفتن والخطوب، وتزول عنا الهموم والكروب، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين نشروا دين الله في أقصى الشروق وأقصى الغروب، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الحساب. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك.
أما بعد فيا أيها المؤمنون! أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
قد قدمنا لكم في الجمعة الماضية أن ثواب الحج عظيم، فهو إن كان مبرورا يمحو الذنوب، ويفتح أبوب الجنة، وهو أفضل الجهاد وأفضل الأعمال.
ولكن الحج لا يكون مبرورا إلا بشروط، وقد قدمنا لكم، أن من شروط الحج المبرور زاد التقوى في الأخلاق والمعاملات والله تعالى يقول: {وتزودوا فإن خبر الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب}.
فتعالوا بنا اليوم نرفع الستار عن شرط آخر من شروط الحج المبرور، لابد منه إذا أراد المسلم أن يغفر الله ذنوبه، فيفوز بتأشرة الدخول إلى جنات النعيم، ألا وهو الزاد الحلال. المال الحلال والنفقة الطيبة، لأن الحج المبرور من الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة إنما تأتي بعد المال الصالح والأكل الطيب والله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من الطيبات واعملوا صالحا}، روى الطبراني والبزار بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللهﷺ: «إذا خرج الحاج حاجا بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز –أي المركوب- فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور غير مأزور، أي مقبول مطهر من الآثام- وإذا خرج الحاج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناده مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك مأزور غير مبرور»(1) أي جلب لك الوزر والذنب، وزادك سخطا وبعدا. ورحم الله من قال:
وحــج بمال من حلال عرفته***وإيــاك والمـال الحـرام وإيـاه
فمن كــان بالمال المحرم حجه***فعـن حجــه والله ما كان أغناه
إذا هو لبــى الله كان جوابه***مـن الله لا لبيك حــج رددنـاه
كذاك روينا في الحديث مسطرا***وما جاء في كتب الحديث سطرناه(2)
ومن قال:
إذا حججت بمال أصله سحت***فما حججت ولكن حجت العير
لا يقبل الله إلا كلَّ خالصـة***ما كلُّ من حج بيت الله مـبرور
فكيف يحج بيت الله الحرام من بطنه مليء بالحرام والرسولﷺ يقول: «والذي نفس محمد بيده، إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه، ما يتقبل منه عمل أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به»؟
وكيف يحج بيت الله من أعلن الحرب ضد الله بالربا والله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فادنوا بحرب من الله ورسوله}؟
وكيف يسعى بين الصفا والمروة أصحاب حانات الخمور و(ساكات) التدخين، وقد سعوا هنا في نشر فواحش السموم بين المسلمين، وكدروا بها صفاء إيمان المؤمنين، والله تعالى يقول: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة}؟
وكيف يقف بعرفات الله من عرف أن ماله من الرشوة، وكاهله مثقل باللعنة «وقد لعن الرسولﷺ الراشي والمرتشي والرائش»؟
وكيف يبيت بمنى من حطم أمنيات الفقراء وأكل أجور عماله، والرسولﷺ يقول في الحديث القدسي الجليل: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة –وعد منها- رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره»؟
وكيف يزور القبر الشريف من جلب ماله من الغش في البيع والشراء، فيبيع السلع مغشوشة، أو يحلف على ثمنها كاذبا، والرسولﷺ يتبرأ من الغش وصاحبه إذ يقول: «من غشنا فليس منا»؟ وكيف يسلم على القبر الشريف من تبرأ منه صاحب القبر الشريفﷺ؟
وفي الحقيقة يا عباد الله أن المال الحلال ليس شرطا في الحج فحسب، بل هو شرط في قبول كل عمل يقوم به المسلم، من دعاء وصلاة وزكاة وصيام ونفقة وقرض وشركة وبيع وشراء. والرسولﷺ يقول في الحديث الصحيح: «إن الله طيب ولا يقبل إلا طيبا» والمسلم سوف يجد يوم القيامة في ماله سؤالين عريضين طويلين: «من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟» كما قال الرسولﷺ، وقد كانﷺ يحذر الأمة من فتنة المال، فيقول فيما روى الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح: «إن لكل أمة فتنة وإن فتنة أمتي المال». وليس معنى هذا الحديث أن مجرد المال فتنة ومصيبة؛ بل مبدأ الإسلام: «نعم المال الصالح في يد الرجل الصالح»، والمال إنما يكون فتنة على صاحبه بسب أحد من أمور أربعة: إذ اكتسبه من الحرام، أو أنفقه في الحرام، أو ضيع واجباته المالية من الزكاة والنفقة والصدقة، أو منعه ماله من أداء واجباته من حقوق ربه كالصلاة والصيام، وحقوق نفسه وزوجته وأهله، وطاعة أبيه وأمه، وحقوق جيرانه وإخوانه.
وقد بين لنا الرسولﷺ النتائج الوخيمة التي يحصل عليها من يكتسب ماله من الحرام، فهو خاسر على كل حال، وإن أنفقه على نفسه لم يبارك الله فيه، وإن تصدق به لم يقبل منه، وإن بقي بعده كان زاده إلى النار، يقولﷺ فيما روى الإمام أحمد: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله عز وجل يعطي الدنيا من أحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده لا يُسْلِم عبد حتى يَسْلَم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه، قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال غَشْمُه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله تعالى لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث».
وبين لناﷺ أن الذي يأكل الحرام لا يشبع منه أبدا، يقولﷺ فيما روى البخاري ومسلم: «إن هذا المال خَضِرَة حُلْوَة فمن أخذه بحقه، ووضعه في حقه، فنعم المعونة هو! ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع» وفي روية «ويكون عليه شهيدا يوم القيامة». فامتلاك المال الحرام لا يزيد صاحبه إلا شحا وبخلا ونهما وجشعا وطمعا، والواقع يشهد على صدق هذا الحديث الشريف! وإنك لتراهم يأكلون الربا فيغرَقون في بحارها، ولا يشبعهم القليل منها، ويتعاطون القمار ليلا ونهارا ساعين وراء سراب ربح العمر، فلا يحصلون إلا على الخسران المبين، وتراهم في الأسواق يحلفون الكذب في السلع وأثمانها، ويتعاملون بالغش والتمويه، قد أشربوا في قلوبهم الطمع والجشع بلا قيد ولا حدود، وتراهم يأخذون الرشوة، لا تعرف القناعة إلى قلوبهم سبيلا، فمنهم من يتسلم كل يوم من الرشوة الملايين، ولكنه لا تغنيه من جوعه، ولا تسد جشعه، ولا تزيل طمعه، فهو جائع أبدا، وإن كدس في البنوك الملايير، وإن امتلأ جيبه فقلبه فقير بائس جشع، ولو سألت قلبه هل امتلأت لقال: هل من مزيد؟
هذه حالتهم؛ فإذا طلع عليهم مواسم الحج والعمرة تسابقوا إليها، وهم يحسبون أنهم يحسون صنعا، ألا ساء ما يحكمون!
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون!
إن أول ما يحتاج إليه المسلم وهو يمارس أفعال الحج، أن يستجيب الله دعاءه، والدعاء هو مخ العبادة، ألا تلاحظون أن الناس عندما يودعون الحاج أول شيء يطلبونه منه هو الدعاء؟ فكم من واحد يحمل الحاج هذا الطلب: لا تنساني في الدعاء؟ بل لا يكاد الحاج يودع أحدا إلا حمله هذا الطلب، والحاج بدوره يعد بالوفاء، وهو يعلم أنه مقبل على أماكن مقدسة، يستجيب الله فيها الدعاء، فهو سيدعو بالروضة الشريفة، وهي روضة من رياض الجنة، وسيدعو عند أدائه لمشاعر الحج في الطواف والسعي وعرفة، وعند المشعر الحرام والجمرات، وفي الملتزم وعند شرب ماء زمزم، "وماء زمزم لما شرب له".
ولكن استجابة هذا الدعاء كلِّه مشروط بأكل الحلال واكتساب الحلال، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّهﷺ: «إنَّ اللَّهَ تَعالى طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّباً، وَإنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ، فَقالَ تَعالى: {يا أيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وَقالَ تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعث أغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ: يا رَبّ يا رَبّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِي بالحَرَامِ، فأنّى يُسْتَجابُ لِذَلِكَ؟»
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تليت هذه الآية الكريمة عند رسول اللهﷺ: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا}؛ فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال النبيﷺ: «يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه، ما يتقبل منه عمل أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به»…
ألا فاتقوا الله عباد الله! وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ …
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). انظر الترغيب للمنذري: 2 / 113 ومجمع الزوائد للهيثمي 10 / 292 وجامع العلوم والحكم لابن رجب 1 / 261 الحديث العاشر.
(2) من نظم الشيخ أبي عبد الله محمد بن رشيد البغدادي في قصيدته التي في المناسك المسماة بالذهبية راجع: مواهب الجليل للحطاب: 2/529.
******************
3) من شروط الحج المبرور التوبة النصوح
4 ذو القعدة 1425 هـ 17 / 12/ 2004 م
الحمد لله معز من تاب إليه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، وفق من شاء من عباده لما يحب ويرضاه، وفضل التائب على العاصي واجتباه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نعبد إلا إياه، حث المؤمن على التوبة والرجوع إلى الله، لأنه بالتوبة يحمي عرضه وحماه، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ومصطفاه، طوبى لمن آب إلى سنته ووالاه، وويل لمن أعرض عن شرعه وعاداه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين تابوا إلى الله فنالوا محبته ورضاه، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى أن نلقاه،
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
قد قدمنا لكم في الجمعة الماضية أن ثواب الحج عظيم، وجزاؤه عند الله أمر جسيم، فهو إن كان مبرورا يمحو الذنوب، ويفتح للجنة الأبواب، وهو أفضل الجهاد وأفضل الأعمال في الأجر والثواب. ولكن الحج لا يكون مأجورا إلا بأخلاق كريمة، ولا يكون مبرورا إلا بشروط سليمة، وقد قدمنا لكم في الجمعتين الماضيتين، أن من شروط الحج المبرور الزادين: زاد البدن من المال الحلال، وزاد الروح من التقوى في الأخلاق والأعمال، والله سبحانه وتعالى يقول: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}.
فتعالوا بنا اليوم نرفع الستار عن شرط آخر من شروط الحج المبرور، لابد من هذا الشرط إذا أراد المسلم أن يغفر الله ذنوبه، فيفوز بتأشرة الدخول إلى جنات النعيم، ألا وهو التوبة النصوح، {ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا}.
أيها الاخوة المؤمنون؛ إن من الحقائق الثابتة، أنه لا يوجد إنسان معصوم من الخطأ غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا يستطيع أحد أن يدعي العصمة لنفسه، ومن ادعاء ذلك فادعاؤه هذا دليل على أنه كذاب ماكر، لأنه اعتدى على خصوصية النبوة، وقد جاء عن أئمة الإسلام الكبار أقوال نأوا فيها بأنفسهم عن ادعاء العصمة من الأخطاء، فقال إمامنا مالك رحمه الله: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوفق الكتاب والسنة فاتركوه" وقال أيضا: "ليس أحد بعد النبيﷺ إلا ويؤخذ من قوله ويترك؛ إلا النبيﷺ" وقال أبو حنيفة: "إننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا". وكيف يكون الإنسان معصوما وجوارحه التي أحيطت به قد تخونه في أية لحظة؟ فإن نجا من هذه تصيدته تلك: فإن نجا من فرجه تصيده لسانه، وإن نجا من لسانه فخائنة الأعين له بالمرصاد، والإنسان مهما بلغ ومهما كان! تكون له فترة سوداء من حياته ارتكب فيها المنكرات، وانقاد وراء ما تستحلي النفس الأمارة من الشهوات، وهو طيلة حياته ما لبث تكون له عثرات وكبوات، ولكل جواد كبوة كما يقال. فلو سأل كل واحد منا نفسه، في حديث صادق مع نفسه: أليس الأمر كذلك؟ فسيجد الجواب: نعم إنه كذلك! والرسولﷺ يقول فيما روى الترمذي: "كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون".
وهل تدرون لماذا؟ لأن الإنسان مخلوق ضعيف، يشتمل على غرائز شتى، لا يملك أن يضبط نفسه أمام منظر مثير من مفاتن الحسن والجمال، أو أمام نظرات مشحونة بالإغراء، أو حركات مشبعة بالإثارة، تستهويه المناظير الخلابة وإن كانت حراما، ويحلو له إشباع غرائزه غير مبال بالحلال منها والحرام، ومن الصعب أن يتمالك نفسه عندما يسمع المليون والمليار، وله أعداء كثيرة، من شياطين الإنس، وشياطين الجن، والنفس الأمارة بالسوء، والهوى المتبع، فكان بذلك مهيأ لارتكاب الذنوب، فاحتاج إلى التوبة منها، فاحتاج إلى تلقيح نفسه الأمارة بالتوبة النصوح، وخصوصا إذا كان مقبلا على أعمال يأمل منها غفران الذنوب ومحو الخطايا كالحج المبرور.
والتوبة – يا عباد الله – حصن حصين، وركن متين، يأوي إليه الإنسان كلما جرفه الهوى والشيطان، وكلما ساقته النفس الأمارة إلى مستنقعات الرذيلة والخسران، وهي القنطرة التي يتحول بها الإنسان من مستنقعات الكفر والمعاصي والفجور، إلى شاطئ الإسلام والطاعة والبرور، فكان الحاج في حاجة إلى التوبة قبل أن يكون في حاجة إلى الحج. بل المسلم في حاجة للتوبة على كل حال، روى الترمذي والنسائي "أن الصحابة رضوان الله عليهم يسمعون من النبيﷺ في المجلس الواحد يقول مائة مرة: رب اغفر وتب علي إنك أنت التواب الغفور" وإذا كان النبيﷺ يكثر من الاستغفار والتوبة هكذا وذنوبه مغفورة؛ أفلا نكون نحن في حاجة إليها وذنوبنا كثيرة.
ولكن لا يكفي أبدا أن نلهج بألسنتنا: أستغفر الله وأتوب إليه، إذا لم يكن لها في الواقع معنى ووقعا، ولا يكفي أن نكثر من الاستغفار ونحن غارقون في الذنوب، وشوارعنا ملئ بمناكر يندى لها جبين الحياء خجلا، ومعاملاتنا في جفاء وجفاف من شرع الله، وأموالنا ملوثة بالحرام. لقد أصبح التبرج تقدما، وأصبح الزنا حرية شخصية، وأصبحت الربا فوائد، وأصبحت الرشوة إحسانا وهدية، وأصبحت الغيبة والنميمة فرجة واستراحة، وأصبحت أفلام الخلاعة والفسق هواية واحترافا وأصبح الرقص الماجن حداثة فنية. فإلى متى نسمي الأشياء بغير مسمياتها؟ فإلى متى نحول بيننا وبين التوبة بسوء أفعالنا؟
أيها الاخوة المؤمنون! فما معنى هذه التوبة التي كثيرا ما نلهج بها دون أن نعرف معناها؟ وما هي شروطها التي كثيرا ما نغفُل عنها ونحن نلوك بألسنتنا: أستغفر الله وأتوب إليه؟ وهل تاب المسلم إذا ذهب إلى الحج وهو هنا لا يصلي أو يصلي ولكن خارج وقتها؟ وهل تاب من حج وهو هنا يعاقر الخمرة وهي أم الخبائث؟ وهل تاب من يدخن في عرفات وهل الحج إلا عرفات؟ وهل تابت المرأة إذا عادت إلى تبرجها وسفورها بعد حجها؟ وهل تاب من ذهب إلى الحج وهو يمارس ما نهى الله من الرفث والفسوق والجدال على أتفه الأمور وأبسط الأشياء؟
ضحيت له كي أستظل بظـله***إذا الظل أضحى في القيامة خالصا
فوا أسفا إن كان سعيك باطلا***وواحسرتا إن كان حجك ناقصا
إن التوبة – يا عباد الله – ليست مجرد لفظ يردده الحاج وهو يمارس شعائر الحاج! فالتوبة لها شروط لا تصح إلى بها:
فمن شروط التوبة الندم على ارتكاب معاصي في الماضي، بأن يحزن قلب المذنب، ويسوءه ما صدر منه، والرسولﷺ يقول فيما روى الحاكم وصححه: "الندم توبة" والندم حالة نفسية تمنع الإنسان من العودة إلى الجريمة مرة أخرى، وهي ما يسمى الآن عندنا بتأنيب الضمير.
ومن شروط التوبة الإقلاع عن ذنوب تمارس في الحال، وعدم الإصرار عليها، والرسولﷺ يقول فيما روى البيهقي في شعب الإيمان: "المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه" والله تعالى يقول: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}.
ومن شروط التوبة أن يكون التائب ذا عزيمة قوية ونية صادقة، في عدم العودة إلى هذا الذنب في المستقبل مرة أخرى، لأن الذي يتوب من ذنب وفي نيته أن يعود إليها كلما سنحت الفرصة إنما هو منافق، لأنه قد خلف الوعد الذي قطعه على نفسه، وقطع العهد الذي أخذه على نفسه، والله تعالى يقول: {والذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون} وفي آية أخرى يقول الله تعالى: {أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار}، والرسولﷺ يقول: "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان".
ومن شروط التوبة إذا كانت الذنوب تتعلق بحقوق العباد أن يتحلل المذنب منها وأن يردها إلى أصحابها إذا كان ممكنا، وإلا طلب منهم العفو والسماح. روى البخاري أن النبيﷺ قال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" وروى مسلم أن النبيﷺ قال: " إن المفلس من أمتي من أتى يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار".
ألا كفى بهذا الحديث النبوي واعظا وزاجرا لمن يظلم غيره في نفسه أو ماله، أو في عرضه وأهله! ألا كفى به تحذيرا وتذكيرا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد! يقول الله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما، وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت، قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار، أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما}.
صدق الله العظيم، وغفر لي ولكم، ولسائر المسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون! إن من رحمة الله تعالى بعباده أنه يفرح بتوبة عبده وإن كان للذنوب مقترفا، ومن مستنقعات الرذائل مغترفا، إذا رجع العبد إليه سبحانه معترفا، وتاب إليه خاشعا مرتجفا، راجيا وخائفا، والرسولﷺ يقول فيما روى الإمام مسلم: "إن الله عز وجل أفرح بتوبة أحدكم من أحدكم بضالته إذا وجدها" ويقولﷺ فيما روى مسلم: "إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها"، وأعظم فائدة للتوبة، وأكبر نتيجة للإنابة، أن يجد المسلم يوم القيامة ما ارتكب قبل التوبة من السيئات، قد تحولت كلها إلى حسنات، فكفى التائب فرحا وشرفا، وكفاها تقربا وزلفى، أن يجد في موضع الكافر مؤمنا، وفي موضع المشرك مخلصا محسنا، وفي موضع الشاك المنافق مطمئنا، وفي موضع الفاسق محصنا، وفي موضع الظالم الجائر عادلا منصفا، وفي موضع العاصي الفاجر مطيعا عفيفا. لكن بشرط التوبة النصوح، والرجوع إلى الله بكل شفافية ووضوح، مع المحافظة على العمل الصالح، والبعد عن العمل الطالح، والله تعالى يقول: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما، ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا}.
والذنب مهما عظم فعفو الله أعظم، ومن ظن أن ذنبا لا يسعه عفو الله فقد فسق وأجرم، وظن بالله ظن السوء فساء وتعدى وظلم، والله تعالى يقول: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} ويقول سبحانه: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم: لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم} ولقد أحسن من قال:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة***فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسـن***فمن الذي يرجو ويدعو المجرم
ما لي إليك وسيلة إلا الرجـا***وجميل عفوك ثـم أني مسلم
ولكن لا يجوز بحال من الأحوال، أن يعتمد المسلم على سعة عفو الله ورحمته فيتمادى على المعاصي على امتداد الأزمان والأجيال، ويصرَّ على الذنوب في الأقوال والأفعال، ثم يقول: سيغفر لنا ذو العزة والجلال، وهذا لا يجوز لأن معناه الأمن من مكر الله الكبير المتعال؛ والله تعالى يقول: {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} ويقول سبحانه: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأنا عذابي هو العذاب الأليم}.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ...
******************
4) من شروط الحج المبرور الإخلاص في العمل
14ذو القعدة 1426ﻫ 16/12/2005م
الحمد لله نحمده أن جعل الإخلاصَ أساسَ العبادة، ونشكره سبحانه وهو المنعم علينا بدأ وإعادة. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصين له الشهادة، أمر الحجاج بإتمام المناسك لله حتى يحققوا لأنفسهم في الدارين السعادة، فينالوا من الله تعالى على إخلاصهم الذكر والإشادة. ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الكريم الرفادة، أفضل من أخلص لله فكان له حسنُ الإدارة وصدقُ الإرادة. صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين حققوا بإخلاصهم الاستفادة والإفادة، فكانت لهم في التاريخ الريادةُ والقيادةُ، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم يكون فيه نصيب هذه الدنيا النهايةَ والإبادةَ.
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته
ها هم وفود الحجاج قريبا سوف يغادرون البلاد إلى رحاب مكة المكرمة لأداء فريضة الحج وهو أفضل الجهاد، وإلى نفحات المدينة المنورة حيث قبر سيد العباد. والحج لا يكون مأجورا إلا بأخلاق كريمة، ولا يكون مبرورا إلا بشروط سليمة، ومن هذه الشروط الإخلاص، وهو الركن الأعظم الذي لا مفر من المحافظة عليه ولا مناص، يقول الله عز وجل: {وأتموا الحج والعمرة لله}، ويقول النبيﷺ في حجته: «اللهم اجعلها حجة لا رياء فيها ولا سمعة». فبالإخلاص يقبل الله عز وجل المناسك، ويسهل إلى الجنة المسالك، وبه يكون الحج مبرورا، والسعي مشكورا، والذنب مغفورا. والذي يقصد بحجه تغيير الاسم واللقب، أو اكتساب الشهرة والمنزلة بين النخب، أو المنافسة للآخرين في الرياء والمظهر الكذب، فسينال من الله الغضب والعذاب، حيث لا جزاء له ولا ثواب.
وفي الحقيقة يا عباد الله أن أي عمل لا يصح ولا يقبل إلا بالإخلاص، يقول النبيﷺ فيما روى النسائي بسند جيد: «إن الله لا يَقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتُغي به وجهه»
إن الإخلاص عنصر أساسي في سائر العبادات، ولذلك دعانا إليه ربنا الكريم في كثير من الآيات، وحث عليه نبيناﷺ في كثير من المناسبات، يقول الله عز وجل: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}، ويقول تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين}، ويقول سبحانه: {قل الله أعبد مخلصا له ديني}، ويقول النبيﷺ فيما روى البخاري ومسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
فالإخلاص هو روحُ العملِ ولُبُّه، يقول ابنُ عَطَاء الله في حكمه: "الأعمال صُوَر قائمة –كالتماثيل-، وروحُها وجودُ سرِّ الإخلاص فيها". وبغير الإخلاص، تُصبح الأعمال صورة بلا حياة، وجثة بلا روح، والله عز وجل إنما يريد من الأعمال حقائقها وأهدافها، لا صورها ورسومها، لا يقبل العمل المغشوش، ولا الفعل المخدوش، والله تعالى يقول في شأن الهدي الذي يقدمه الحجاج والعمار: {لن ينال الله لحومها ولا دمائها ولكن يناله التقوى منكم}، ويقول النبيﷺ فيما روى الإمام مسلم: «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم وصوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم».
وقد مدح الله تعالى المخلِصين بمدح لطيف فقال سبحانه: {إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما}، وألقى على المرائين باللَّوْم الشديد والزَّجْر العَنِيف فقال سبحانه: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراءون ويمنعون الماعون}، وقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كالذي ينفق ماله رئاء الناس}.
أيها الاخوة المؤمنون! لقد سجل الصحابة في الإخلاص مواقف ناصعة، وأعمالا ساطعة، وقدموا لنا نماذجَ تُجَسِّد الإخلاصَ في وقائِعَ رائعة، وتُبرِز لأولي الألباب القدوةَ النافعة، والعبرة الرادعة، لقد كانت أفعالهم وأقوالهم كلُّها لله وحده لا شريك له، لأنه استوى في حسابهم مدحُ الناس وذمُّهم، نسُوا رؤيةَ الخلْق بدوام تفكرهم في الخالق، استوت أفعالهم في الظاهر والباطن، نظروا في الإخلاص فلم يجدوا غير أن تكون حركاتهم وسكناتهم في سرهم وعلانيتهم لله تعالى وحده، لا يمازجه في ذلك شيء، لا نفس ولا هوى ولا دنيا. فكان الله معهم في سائر الأمور، ففرَّجَ عنهم الكربات، وحَطَّ عنهم السيئات، ونصرهم على أعدائهم، فنشروا دين الله في بقاع الأرض، رغم أنهم فقراءُ المال، ضعفاءُ الجَاه، يقول فيهم المصطفىﷺ : «إنما يَنصر اللهُ هذه الأمةَ بضَعِيفها -أي بضعفائها- بِدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم» رواه النسائيُّ وغيرُه بسند صحيح.
أما اليوم فالإخلاص قد قل وجودُه، وأصبح المتخلقون به عملة صعبة، وهذا من أسباب انحطاط المسلمين وعوامل ضَعفهم ووهنهم وتخاذلهم، فما وهن المسلمون اليوم أمام عدوهم في كثير من القضايا إلا بسبب عدم الإخلاص في العمل، وموت الضمير المهني في السر والعلن، حيث لا تسير الأعمال إلا بالرشوة الملعونة، وحيث يتعامل الجبناء بالمحسوبية الممقوتة، فتدار الأعمال من تحت الطاولة، وتصرف الأشغال بشفافية مزورة، يقول النبيﷺ: «خمس بخمس: ما نقض قوم العهدَ إلا سلط عليهم عدوهم…» رواه الطبراني وهو حديث صحيح. والعهد الذي بيننا وبين الله تعالى، هو أن نخلصَ له سائرَ الأعمال والأقوال. فهل يعي المسلمون أهميةَ هذا الركنِ العظيم، وهذا العملِ القلبيِّ الجسيم؟ فيجتمعون على مائدة الإخلاص، وينطلقون من قاعدة الإخلاص، ويسيرون على درْب الإخلاص، ليكونوا عباد الله المخلَصين.
أيها الاخوة المؤمنون! إن من فضل الله ورحمته، أنه سبحانه يكتب ثواب الحج والعمرة لغير الحجاج والمعتمرين، الذين في نيتهم أن يحجوا، لكن الظروف القاسية منعتهم. وقد جاء في الأثر: «النية أبلغ من العمل»، وروى الإمام مسلم، أن النبيﷺ قال: قال الله عز وجل: «إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة، فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها».
فهذا الحديث الشريف، يبين لنا مدى فضل الله ورحمته بنا، إذ يمنحنا الثواب والأجر على مجرد صدق نيتنا، ومن هنا أبشر كل مؤمن ومؤمنة، ينويان أن يذهبا إلى الحج، لكن الظروف منعتهما، أبشرهما بأن الله عز وجل سيجازيهما على هذه النية الصادقة، وهذا رسول اللهﷺ يؤكد هذا فيقول لأصحابه وهم راجعون من غزوة تبوك: «إن أقواما خلْفَنا بالمدينة، ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا، -وفي رواية: إلا وشاركوكم الأجر- حبسهم العذر» رواه البخاري . ورحم الله الشاعر إذ يقول:
يا سائرا إلى البيت العتيق لقد***سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إذا أقمنا على عذر وقد راحوا***فمن أقام على عذر كـمن راحا
يقول الله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحيايَ ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}.
صدق الله العظيم وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون! وإذا كنا نودع هذه الأيام القوافل الأولى للحجاج، فإن من الواجب علينا الوقوف على السنة النبوية في الوداع، هذا الوداع السني الذي نسيناه أو تغافلنا عنه، فاستبدلناه بتلك الكلمات الخاوية الجوفاء، التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، ولا تحمل من الدعاء قطميرا، فمن الناس من يقول في وداعه: إلى اللقاء، ومنهم من يقول: وداعا، فأغرب بعضهم واغترب أكثر فكان وداعه (بـي بـي) بينما الرسولﷺ يودع المسافرين بأربعة أمور:
أولا: جعل المسافر وديعة وأمانة في يد الله تعالى، ولن يضيع من كان وديعة في يده سبحانه وتعالى، وقد كانﷺ إذا ودع أصحابه في السفر يقول فيما روى الترمذي: "أستودع الله دينك وأمانتك وخواتم أعمالك" وفي روية "أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه" ومعنى أستودعكم الله أطلب منه لكم الحفظ والحماية.
ثانيا: تقديم وصية تنفع المسافر في دينه ودنياه، روى الترمذي أن رجلا قال: يا رسول الله! أريد أن أسافر فأوصني. فقالﷺ: "عليك بتقوى الله والتكبير على كل شرف" لقد أوصاهﷺ بأمرين هامين: أن يتحلى في معاملاته بتقوى الله وخير الزاد التقوى، وذلك بامتثال أوامره سبحانه واجتناب نواهيه، وأن يكون قلبه مرتبطا بخالقه بذكر الله أكبر، {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}.
ثالثا: الدعاء للمسافر بالخير والتوفيق، روى الترمذي أن رجلا جاء إلى النبيﷺ فقال: يا رسول الله! إني أريد سفرا فزودني. قالﷺ : "زودك الله بالتقوى، وغفر ذنبك، ويسر لك الخير حيثما كنت" وفي رواية "فلما ولى الرجل قالﷺ: "اللهم اطو له البعد وهون عليه السفر".
رابعا: طلب الدعاء من المسافر لأن دعاءه مستجاب، روى الترمذي أن النبيﷺ قال: "ثلاث دعوات مستجابة: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده" وخصوصا عندما يكون هدف المسافر أداء مناسك الحج والعمرة، روى أبو داوود والترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله قال: استأذنت النبيﷺ في العمرة فأذن وقال: "لا تنسنا يا أُخَيَّ من دعائك" وفي رواية "أشركنا يا أُخَيَّ في دعائك" فقال عمر رضي الله معلقا على هذا الطلب النبوي: إنها كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ… نفسي بيده لا يُسْلِم عبد حتى يَسْلَم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه، قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال غَشْمُه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله تعالى لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث».
وبين لناﷺ أن الذي يأكل الحرام لا يشبع منه أبدا، يقولﷺ فيما روى البخاري ومسلم: «إن هذا المال خَضِرَة حُلْوَة فمن أخذه بحقه، ووضعه في حقه، فنعم المعونة هو! ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع» وفي روية «ويكون عليه شهيدا يوم القيامة». فامتلاك المال الحرام لا يزيد صاحبه إلا شحا وبخلا ونهما وجشعا وطمعا، والواقع يشهد على صدق هذا الحديث الشريف! وإنك لتراهم يأكلون الربا فيغرَقون في بحارها، ولا يشبعهم القليل منها، ويتعاطون القمار ليلا ونهارا ساعين وراء سراب ربح العمر، فلا يحصلون إلا على الخسران المبين، وتراهم في الأسواق يحلفون الكذب في السلع وأثمانها، ويتعاملون بالغش والتمويه، قد أشربوا في قلوبهم الطمع والجشع بلا قيد ولا حدود، وتراهم يأخذون الرشوة، لا تعرف القناعة إلى قلوبهم سبيلا، فمنهم من يتسلم كل يوم من الرشوة الملايين، ولكنه لا تغنيه من جوعه، ولا تسد جشعه، ولا تزيل طمعه، فهو جائع أبدا، وإن كدس في البنوك الملايير، وإن امتلأ جيبه فقلبه فقير بائس جشع، ولو سألت قلبه هل امتلأت لقال: هل من مزيد؟
هذه حالتهم؛ فإذا طلع عليهم مواسم الحج والعمرة تسابقوا إليها، وهم يحسبون أنهم يحسون صنعا، ألا ساء ما يحكمون!
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين.
وبين لناﷺ أن الذي يأكل الحرام لا يشبع منه أبدا، يقولﷺ فيما روى البخاري ومسلم: «إن هذا المال خَضِرَة حُلْوَة فمن أخذه بحقه، ووضعه في حقه، فنعم المعونة هو! ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع» وفي روية «ويكون عليه شهيدا يوم القيامة». فامتلاك المال الحرام لا يزيد صاحبه إلا شحا وبخلا ونهما وجشعا وطمعا، والواقع يشهد على صدق هذا الحديث الشريف! وإنك لتراهم يأكلون الربا فيغرَقون في بحارها، ولا يشبعهم القليل منها، ويتعاطون القمار ليلا ونهارا ساعين وراء سراب ربح العمر، فلا يحصلون إلا على الخسران المبين، وتراهم في الأسواق يحلفون الكذب في السلع وأثمانها، ويتعاملون بالغش والتمويه، قد أشربوا في قلوبهم الطمع والجشع بلا قيد ولا حدود، وتراهم يأخذون الرشوة، لا تعرف القناعة إلى قلوبهم سبيلا، فمنهم من يتسلم كل يوم من الرشوة الملايين، ولكنه لا تغنيه من جوعه، ولا تسد جشعه، ولا تزيل طمعه، فهو جائع أبدا، وإن كدس في البنوك الملايير، وإن امتلأ جيبه فقلبه فقير بائس جشع، ولو سألت قلبه هل امتلأت لقال: هل من مزيد؟
هذه حالتهم؛ فإذا طلع عليهم مواسم الحج والعمرة تسابقوا إليها، وهم يحسبون أنهم يحسون صنعا، ألا ساء ما يحكمون!
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون!
إن أول ما يحتاج إليه المسلم وهو يمارس أفعال الحج، أن يستجيب الله دعاءه، والدعاء هو مخ العبادة، ألا تلاحظون أن الناس عندما يودعون الحاج أول شيء يطلبونه منه هو الدعاء؟ فكم من واحد يحمل الحاج هذا الطلب: لا تنساني في الدعاء؟ بل لا يكاد الحاج يودع أحدا إلا حمله هذا الطلب، والحاج بدوره يعد بالوفاء، وهو يعلم أنه مقبل على أماكن مقدسة، يستجيب الله فيها الدعاء، فهو سيدعو بالروضة الشريفة، وهي روضة من رياض الجنة، وسيدعو عند أدائه لمشاعر الحج في الطواف والسعي وعرفة، وعند المشعر الحرام والجمرات، وفي الملتزم وعند شرب ماء زمزم، "وماء زمزم لما شرب له".
ولكن استجابة هذا الدعاء كلِّه مشروط بأكل الحلال واكتساب الحلال، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّهﷺ: «إنَّ اللَّهَ تَعالى طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّباً، وَإنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ، فَقالَ تَعالى: {يا أيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وَقالَ تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعث أغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ: يا رَبّ يا رَبّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِي بالحَرَامِ، فأنّى يُسْتَجابُ لِذَلِكَ؟»
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تليت هذه الآية الكريمة عند رسول اللهﷺ: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا}؛ فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال النبيﷺ: «يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه، ما يتقبل منه عمل أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به»…
ألا فاتقوا الله عباد الله! وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ …
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). انظر الترغيب للمنذري: 2 / 113 ومجمع الزوائد للهيثمي 10 / 292 وجامع العلوم والحكم لابن رجب 1 / 261 الحديث العاشر.
(2) من نظم الشيخ أبي عبد الله محمد بن رشيد البغدادي في قصيدته التي في المناسك المسماة بالذهبية راجع: مواهب الجليل للحطاب: 2/529.
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون!
إن أول ما يحتاج إليه المسلم وهو يمارس أفعال الحج، أن يستجيب الله دعاءه، والدعاء هو مخ العبادة، ألا تلاحظون أن الناس عندما يودعون الحاج أول شيء يطلبونه منه هو الدعاء؟ فكم من واحد يحمل الحاج هذا الطلب: لا تنساني في الدعاء؟ بل لا يكاد الحاج يودع أحدا إلا حمله هذا الطلب، والحاج بدوره يعد بالوفاء، وهو يعلم أنه مقبل على أماكن مقدسة، يستجيب الله فيها الدعاء، فهو سيدعو بالروضة الشريفة، وهي روضة من رياض الجنة، وسيدعو عند أدائه لمشاعر الحج في الطواف والسعي وعرفة، وعند المشعر الحرام والجمرات، وفي الملتزم وعند شرب ماء زمزم، "وماء زمزم لما شرب له".
ولكن استجابة هذا الدعاء كلِّه مشروط بأكل الحلال واكتساب الحلال، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّهﷺ: «إنَّ اللَّهَ تَعالى طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّباً، وَإنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ، فَقالَ تَعالى: {يا أيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وَقالَ تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعث أغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ: يا رَبّ يا رَبّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِي بالحَرَامِ، فأنّى يُسْتَجابُ لِذَلِكَ؟»
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تليت هذه الآية الكريمة عند رسول اللهﷺ: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا}؛ فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال النبيﷺ: «يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه، ما يتقبل منه عمل أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به»…
ألا فاتقوا الله عباد الله! وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ …
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). انظر الترغيب للمنذري: 2 / 113 ومجمع الزوائد للهيثمي 10 / 292 وجامع العلوم والحكم لابن رجب 1 / 261 الحديث العاشر.
(2) من نظم الشيخ أبي عبد الله محمد بن رشيد البغدادي في قصيدته التي في المناسك المسماة بالذهبية راجع: مواهب الجليل للحطاب: 2/529.
******************
3) من شروط الحج المبرور التوبة النصوح
4 ذو القعدة 1425 هـ 17 / 12/ 2004 م
3) من شروط الحج المبرور التوبة النصوح
4 ذو القعدة 1425 هـ 17 / 12/ 2004 م
الحمد لله معز من تاب إليه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، وفق من شاء من عباده لما يحب ويرضاه، وفضل التائب على العاصي واجتباه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نعبد إلا إياه، حث المؤمن على التوبة والرجوع إلى الله، لأنه بالتوبة يحمي عرضه وحماه، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ومصطفاه، طوبى لمن آب إلى سنته ووالاه، وويل لمن أعرض عن شرعه وعاداه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين تابوا إلى الله فنالوا محبته ورضاه، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى أن نلقاه،
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
قد قدمنا لكم في الجمعة الماضية أن ثواب الحج عظيم، وجزاؤه عند الله أمر جسيم، فهو إن كان مبرورا يمحو الذنوب، ويفتح للجنة الأبواب، وهو أفضل الجهاد وأفضل الأعمال في الأجر والثواب. ولكن الحج لا يكون مأجورا إلا بأخلاق كريمة، ولا يكون مبرورا إلا بشروط سليمة، وقد قدمنا لكم في الجمعتين الماضيتين، أن من شروط الحج المبرور الزادين: زاد البدن من المال الحلال، وزاد الروح من التقوى في الأخلاق والأعمال، والله سبحانه وتعالى يقول: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}.
فتعالوا بنا اليوم نرفع الستار عن شرط آخر من شروط الحج المبرور، لابد من هذا الشرط إذا أراد المسلم أن يغفر الله ذنوبه، فيفوز بتأشرة الدخول إلى جنات النعيم، ألا وهو التوبة النصوح، {ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا}.
أيها الاخوة المؤمنون؛ إن من الحقائق الثابتة، أنه لا يوجد إنسان معصوم من الخطأ غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا يستطيع أحد أن يدعي العصمة لنفسه، ومن ادعاء ذلك فادعاؤه هذا دليل على أنه كذاب ماكر، لأنه اعتدى على خصوصية النبوة، وقد جاء عن أئمة الإسلام الكبار أقوال نأوا فيها بأنفسهم عن ادعاء العصمة من الأخطاء، فقال إمامنا مالك رحمه الله: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوفق الكتاب والسنة فاتركوه" وقال أيضا: "ليس أحد بعد النبيﷺ إلا ويؤخذ من قوله ويترك؛ إلا النبيﷺ" وقال أبو حنيفة: "إننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا". وكيف يكون الإنسان معصوما وجوارحه التي أحيطت به قد تخونه في أية لحظة؟ فإن نجا من هذه تصيدته تلك: فإن نجا من فرجه تصيده لسانه، وإن نجا من لسانه فخائنة الأعين له بالمرصاد، والإنسان مهما بلغ ومهما كان! تكون له فترة سوداء من حياته ارتكب فيها المنكرات، وانقاد وراء ما تستحلي النفس الأمارة من الشهوات، وهو طيلة حياته ما لبث تكون له عثرات وكبوات، ولكل جواد كبوة كما يقال. فلو سأل كل واحد منا نفسه، في حديث صادق مع نفسه: أليس الأمر كذلك؟ فسيجد الجواب: نعم إنه كذلك! والرسولﷺ يقول فيما روى الترمذي: "كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون".
وهل تدرون لماذا؟ لأن الإنسان مخلوق ضعيف، يشتمل على غرائز شتى، لا يملك أن يضبط نفسه أمام منظر مثير من مفاتن الحسن والجمال، أو أمام نظرات مشحونة بالإغراء، أو حركات مشبعة بالإثارة، تستهويه المناظير الخلابة وإن كانت حراما، ويحلو له إشباع غرائزه غير مبال بالحلال منها والحرام، ومن الصعب أن يتمالك نفسه عندما يسمع المليون والمليار، وله أعداء كثيرة، من شياطين الإنس، وشياطين الجن، والنفس الأمارة بالسوء، والهوى المتبع، فكان بذلك مهيأ لارتكاب الذنوب، فاحتاج إلى التوبة منها، فاحتاج إلى تلقيح نفسه الأمارة بالتوبة النصوح، وخصوصا إذا كان مقبلا على أعمال يأمل منها غفران الذنوب ومحو الخطايا كالحج المبرور.
والتوبة – يا عباد الله – حصن حصين، وركن متين، يأوي إليه الإنسان كلما جرفه الهوى والشيطان، وكلما ساقته النفس الأمارة إلى مستنقعات الرذيلة والخسران، وهي القنطرة التي يتحول بها الإنسان من مستنقعات الكفر والمعاصي والفجور، إلى شاطئ الإسلام والطاعة والبرور، فكان الحاج في حاجة إلى التوبة قبل أن يكون في حاجة إلى الحج. بل المسلم في حاجة للتوبة على كل حال، روى الترمذي والنسائي "أن الصحابة رضوان الله عليهم يسمعون من النبيﷺ في المجلس الواحد يقول مائة مرة: رب اغفر وتب علي إنك أنت التواب الغفور" وإذا كان النبيﷺ يكثر من الاستغفار والتوبة هكذا وذنوبه مغفورة؛ أفلا نكون نحن في حاجة إليها وذنوبنا كثيرة.
ولكن لا يكفي أبدا أن نلهج بألسنتنا: أستغفر الله وأتوب إليه، إذا لم يكن لها في الواقع معنى ووقعا، ولا يكفي أن نكثر من الاستغفار ونحن غارقون في الذنوب، وشوارعنا ملئ بمناكر يندى لها جبين الحياء خجلا، ومعاملاتنا في جفاء وجفاف من شرع الله، وأموالنا ملوثة بالحرام. لقد أصبح التبرج تقدما، وأصبح الزنا حرية شخصية، وأصبحت الربا فوائد، وأصبحت الرشوة إحسانا وهدية، وأصبحت الغيبة والنميمة فرجة واستراحة، وأصبحت أفلام الخلاعة والفسق هواية واحترافا وأصبح الرقص الماجن حداثة فنية. فإلى متى نسمي الأشياء بغير مسمياتها؟ فإلى متى نحول بيننا وبين التوبة بسوء أفعالنا؟
أيها الاخوة المؤمنون! فما معنى هذه التوبة التي كثيرا ما نلهج بها دون أن نعرف معناها؟ وما هي شروطها التي كثيرا ما نغفُل عنها ونحن نلوك بألسنتنا: أستغفر الله وأتوب إليه؟ وهل تاب المسلم إذا ذهب إلى الحج وهو هنا لا يصلي أو يصلي ولكن خارج وقتها؟ وهل تاب من حج وهو هنا يعاقر الخمرة وهي أم الخبائث؟ وهل تاب من يدخن في عرفات وهل الحج إلا عرفات؟ وهل تابت المرأة إذا عادت إلى تبرجها وسفورها بعد حجها؟ وهل تاب من ذهب إلى الحج وهو يمارس ما نهى الله من الرفث والفسوق والجدال على أتفه الأمور وأبسط الأشياء؟
ضحيت له كي أستظل بظـله***إذا الظل أضحى في القيامة خالصا
فوا أسفا إن كان سعيك باطلا***وواحسرتا إن كان حجك ناقصا
إن التوبة – يا عباد الله – ليست مجرد لفظ يردده الحاج وهو يمارس شعائر الحاج! فالتوبة لها شروط لا تصح إلى بها:
فمن شروط التوبة الندم على ارتكاب معاصي في الماضي، بأن يحزن قلب المذنب، ويسوءه ما صدر منه، والرسولﷺ يقول فيما روى الحاكم وصححه: "الندم توبة" والندم حالة نفسية تمنع الإنسان من العودة إلى الجريمة مرة أخرى، وهي ما يسمى الآن عندنا بتأنيب الضمير.
ومن شروط التوبة الإقلاع عن ذنوب تمارس في الحال، وعدم الإصرار عليها، والرسولﷺ يقول فيما روى البيهقي في شعب الإيمان: "المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه" والله تعالى يقول: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}.
ومن شروط التوبة أن يكون التائب ذا عزيمة قوية ونية صادقة، في عدم العودة إلى هذا الذنب في المستقبل مرة أخرى، لأن الذي يتوب من ذنب وفي نيته أن يعود إليها كلما سنحت الفرصة إنما هو منافق، لأنه قد خلف الوعد الذي قطعه على نفسه، وقطع العهد الذي أخذه على نفسه، والله تعالى يقول: {والذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون} وفي آية أخرى يقول الله تعالى: {أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار}، والرسولﷺ يقول: "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان".
ومن شروط التوبة إذا كانت الذنوب تتعلق بحقوق العباد أن يتحلل المذنب منها وأن يردها إلى أصحابها إذا كان ممكنا، وإلا طلب منهم العفو والسماح. روى البخاري أن النبيﷺ قال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" وروى مسلم أن النبيﷺ قال: " إن المفلس من أمتي من أتى يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار".
ألا كفى بهذا الحديث النبوي واعظا وزاجرا لمن يظلم غيره في نفسه أو ماله، أو في عرضه وأهله! ألا كفى به تحذيرا وتذكيرا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد! يقول الله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما، وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت، قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار، أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما}.
صدق الله العظيم، وغفر لي ولكم، ولسائر المسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
قد قدمنا لكم في الجمعة الماضية أن ثواب الحج عظيم، وجزاؤه عند الله أمر جسيم، فهو إن كان مبرورا يمحو الذنوب، ويفتح للجنة الأبواب، وهو أفضل الجهاد وأفضل الأعمال في الأجر والثواب. ولكن الحج لا يكون مأجورا إلا بأخلاق كريمة، ولا يكون مبرورا إلا بشروط سليمة، وقد قدمنا لكم في الجمعتين الماضيتين، أن من شروط الحج المبرور الزادين: زاد البدن من المال الحلال، وزاد الروح من التقوى في الأخلاق والأعمال، والله سبحانه وتعالى يقول: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}.
فتعالوا بنا اليوم نرفع الستار عن شرط آخر من شروط الحج المبرور، لابد من هذا الشرط إذا أراد المسلم أن يغفر الله ذنوبه، فيفوز بتأشرة الدخول إلى جنات النعيم، ألا وهو التوبة النصوح، {ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا}.
أيها الاخوة المؤمنون؛ إن من الحقائق الثابتة، أنه لا يوجد إنسان معصوم من الخطأ غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا يستطيع أحد أن يدعي العصمة لنفسه، ومن ادعاء ذلك فادعاؤه هذا دليل على أنه كذاب ماكر، لأنه اعتدى على خصوصية النبوة، وقد جاء عن أئمة الإسلام الكبار أقوال نأوا فيها بأنفسهم عن ادعاء العصمة من الأخطاء، فقال إمامنا مالك رحمه الله: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوفق الكتاب والسنة فاتركوه" وقال أيضا: "ليس أحد بعد النبيﷺ إلا ويؤخذ من قوله ويترك؛ إلا النبيﷺ" وقال أبو حنيفة: "إننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا". وكيف يكون الإنسان معصوما وجوارحه التي أحيطت به قد تخونه في أية لحظة؟ فإن نجا من هذه تصيدته تلك: فإن نجا من فرجه تصيده لسانه، وإن نجا من لسانه فخائنة الأعين له بالمرصاد، والإنسان مهما بلغ ومهما كان! تكون له فترة سوداء من حياته ارتكب فيها المنكرات، وانقاد وراء ما تستحلي النفس الأمارة من الشهوات، وهو طيلة حياته ما لبث تكون له عثرات وكبوات، ولكل جواد كبوة كما يقال. فلو سأل كل واحد منا نفسه، في حديث صادق مع نفسه: أليس الأمر كذلك؟ فسيجد الجواب: نعم إنه كذلك! والرسولﷺ يقول فيما روى الترمذي: "كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون".
وهل تدرون لماذا؟ لأن الإنسان مخلوق ضعيف، يشتمل على غرائز شتى، لا يملك أن يضبط نفسه أمام منظر مثير من مفاتن الحسن والجمال، أو أمام نظرات مشحونة بالإغراء، أو حركات مشبعة بالإثارة، تستهويه المناظير الخلابة وإن كانت حراما، ويحلو له إشباع غرائزه غير مبال بالحلال منها والحرام، ومن الصعب أن يتمالك نفسه عندما يسمع المليون والمليار، وله أعداء كثيرة، من شياطين الإنس، وشياطين الجن، والنفس الأمارة بالسوء، والهوى المتبع، فكان بذلك مهيأ لارتكاب الذنوب، فاحتاج إلى التوبة منها، فاحتاج إلى تلقيح نفسه الأمارة بالتوبة النصوح، وخصوصا إذا كان مقبلا على أعمال يأمل منها غفران الذنوب ومحو الخطايا كالحج المبرور.
والتوبة – يا عباد الله – حصن حصين، وركن متين، يأوي إليه الإنسان كلما جرفه الهوى والشيطان، وكلما ساقته النفس الأمارة إلى مستنقعات الرذيلة والخسران، وهي القنطرة التي يتحول بها الإنسان من مستنقعات الكفر والمعاصي والفجور، إلى شاطئ الإسلام والطاعة والبرور، فكان الحاج في حاجة إلى التوبة قبل أن يكون في حاجة إلى الحج. بل المسلم في حاجة للتوبة على كل حال، روى الترمذي والنسائي "أن الصحابة رضوان الله عليهم يسمعون من النبيﷺ في المجلس الواحد يقول مائة مرة: رب اغفر وتب علي إنك أنت التواب الغفور" وإذا كان النبيﷺ يكثر من الاستغفار والتوبة هكذا وذنوبه مغفورة؛ أفلا نكون نحن في حاجة إليها وذنوبنا كثيرة.
ولكن لا يكفي أبدا أن نلهج بألسنتنا: أستغفر الله وأتوب إليه، إذا لم يكن لها في الواقع معنى ووقعا، ولا يكفي أن نكثر من الاستغفار ونحن غارقون في الذنوب، وشوارعنا ملئ بمناكر يندى لها جبين الحياء خجلا، ومعاملاتنا في جفاء وجفاف من شرع الله، وأموالنا ملوثة بالحرام. لقد أصبح التبرج تقدما، وأصبح الزنا حرية شخصية، وأصبحت الربا فوائد، وأصبحت الرشوة إحسانا وهدية، وأصبحت الغيبة والنميمة فرجة واستراحة، وأصبحت أفلام الخلاعة والفسق هواية واحترافا وأصبح الرقص الماجن حداثة فنية. فإلى متى نسمي الأشياء بغير مسمياتها؟ فإلى متى نحول بيننا وبين التوبة بسوء أفعالنا؟
أيها الاخوة المؤمنون! فما معنى هذه التوبة التي كثيرا ما نلهج بها دون أن نعرف معناها؟ وما هي شروطها التي كثيرا ما نغفُل عنها ونحن نلوك بألسنتنا: أستغفر الله وأتوب إليه؟ وهل تاب المسلم إذا ذهب إلى الحج وهو هنا لا يصلي أو يصلي ولكن خارج وقتها؟ وهل تاب من حج وهو هنا يعاقر الخمرة وهي أم الخبائث؟ وهل تاب من يدخن في عرفات وهل الحج إلا عرفات؟ وهل تابت المرأة إذا عادت إلى تبرجها وسفورها بعد حجها؟ وهل تاب من ذهب إلى الحج وهو يمارس ما نهى الله من الرفث والفسوق والجدال على أتفه الأمور وأبسط الأشياء؟
ضحيت له كي أستظل بظـله***إذا الظل أضحى في القيامة خالصا
فوا أسفا إن كان سعيك باطلا***وواحسرتا إن كان حجك ناقصا
إن التوبة – يا عباد الله – ليست مجرد لفظ يردده الحاج وهو يمارس شعائر الحاج! فالتوبة لها شروط لا تصح إلى بها:
فمن شروط التوبة الندم على ارتكاب معاصي في الماضي، بأن يحزن قلب المذنب، ويسوءه ما صدر منه، والرسولﷺ يقول فيما روى الحاكم وصححه: "الندم توبة" والندم حالة نفسية تمنع الإنسان من العودة إلى الجريمة مرة أخرى، وهي ما يسمى الآن عندنا بتأنيب الضمير.
ومن شروط التوبة الإقلاع عن ذنوب تمارس في الحال، وعدم الإصرار عليها، والرسولﷺ يقول فيما روى البيهقي في شعب الإيمان: "المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه" والله تعالى يقول: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}.
ومن شروط التوبة أن يكون التائب ذا عزيمة قوية ونية صادقة، في عدم العودة إلى هذا الذنب في المستقبل مرة أخرى، لأن الذي يتوب من ذنب وفي نيته أن يعود إليها كلما سنحت الفرصة إنما هو منافق، لأنه قد خلف الوعد الذي قطعه على نفسه، وقطع العهد الذي أخذه على نفسه، والله تعالى يقول: {والذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون} وفي آية أخرى يقول الله تعالى: {أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار}، والرسولﷺ يقول: "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان".
ومن شروط التوبة إذا كانت الذنوب تتعلق بحقوق العباد أن يتحلل المذنب منها وأن يردها إلى أصحابها إذا كان ممكنا، وإلا طلب منهم العفو والسماح. روى البخاري أن النبيﷺ قال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه" وروى مسلم أن النبيﷺ قال: " إن المفلس من أمتي من أتى يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار".
ألا كفى بهذا الحديث النبوي واعظا وزاجرا لمن يظلم غيره في نفسه أو ماله، أو في عرضه وأهله! ألا كفى به تحذيرا وتذكيرا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد! يقول الله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما، وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت، قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار، أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما}.
صدق الله العظيم، وغفر لي ولكم، ولسائر المسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون! إن من رحمة الله تعالى بعباده أنه يفرح بتوبة عبده وإن كان للذنوب مقترفا، ومن مستنقعات الرذائل مغترفا، إذا رجع العبد إليه سبحانه معترفا، وتاب إليه خاشعا مرتجفا، راجيا وخائفا، والرسولﷺ يقول فيما روى الإمام مسلم: "إن الله عز وجل أفرح بتوبة أحدكم من أحدكم بضالته إذا وجدها" ويقولﷺ فيما روى مسلم: "إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها"، وأعظم فائدة للتوبة، وأكبر نتيجة للإنابة، أن يجد المسلم يوم القيامة ما ارتكب قبل التوبة من السيئات، قد تحولت كلها إلى حسنات، فكفى التائب فرحا وشرفا، وكفاها تقربا وزلفى، أن يجد في موضع الكافر مؤمنا، وفي موضع المشرك مخلصا محسنا، وفي موضع الشاك المنافق مطمئنا، وفي موضع الفاسق محصنا، وفي موضع الظالم الجائر عادلا منصفا، وفي موضع العاصي الفاجر مطيعا عفيفا. لكن بشرط التوبة النصوح، والرجوع إلى الله بكل شفافية ووضوح، مع المحافظة على العمل الصالح، والبعد عن العمل الطالح، والله تعالى يقول: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما، ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا}.
والذنب مهما عظم فعفو الله أعظم، ومن ظن أن ذنبا لا يسعه عفو الله فقد فسق وأجرم، وظن بالله ظن السوء فساء وتعدى وظلم، والله تعالى يقول: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} ويقول سبحانه: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم: لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم} ولقد أحسن من قال:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة***فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسـن***فمن الذي يرجو ويدعو المجرم
ما لي إليك وسيلة إلا الرجـا***وجميل عفوك ثـم أني مسلم
ولكن لا يجوز بحال من الأحوال، أن يعتمد المسلم على سعة عفو الله ورحمته فيتمادى على المعاصي على امتداد الأزمان والأجيال، ويصرَّ على الذنوب في الأقوال والأفعال، ثم يقول: سيغفر لنا ذو العزة والجلال، وهذا لا يجوز لأن معناه الأمن من مكر الله الكبير المتعال؛ والله تعالى يقول: {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} ويقول سبحانه: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأنا عذابي هو العذاب الأليم}.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ...
******************
4) من شروط الحج المبرور الإخلاص في العمل
14ذو القعدة 1426ﻫ 16/12/2005م
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون! إن من رحمة الله تعالى بعباده أنه يفرح بتوبة عبده وإن كان للذنوب مقترفا، ومن مستنقعات الرذائل مغترفا، إذا رجع العبد إليه سبحانه معترفا، وتاب إليه خاشعا مرتجفا، راجيا وخائفا، والرسولﷺ يقول فيما روى الإمام مسلم: "إن الله عز وجل أفرح بتوبة أحدكم من أحدكم بضالته إذا وجدها" ويقولﷺ فيما روى مسلم: "إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها"، وأعظم فائدة للتوبة، وأكبر نتيجة للإنابة، أن يجد المسلم يوم القيامة ما ارتكب قبل التوبة من السيئات، قد تحولت كلها إلى حسنات، فكفى التائب فرحا وشرفا، وكفاها تقربا وزلفى، أن يجد في موضع الكافر مؤمنا، وفي موضع المشرك مخلصا محسنا، وفي موضع الشاك المنافق مطمئنا، وفي موضع الفاسق محصنا، وفي موضع الظالم الجائر عادلا منصفا، وفي موضع العاصي الفاجر مطيعا عفيفا. لكن بشرط التوبة النصوح، والرجوع إلى الله بكل شفافية ووضوح، مع المحافظة على العمل الصالح، والبعد عن العمل الطالح، والله تعالى يقول: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما، ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا}.
والذنب مهما عظم فعفو الله أعظم، ومن ظن أن ذنبا لا يسعه عفو الله فقد فسق وأجرم، وظن بالله ظن السوء فساء وتعدى وظلم، والله تعالى يقول: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} ويقول سبحانه: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم: لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم} ولقد أحسن من قال:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة***فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسـن***فمن الذي يرجو ويدعو المجرم
ما لي إليك وسيلة إلا الرجـا***وجميل عفوك ثـم أني مسلم
ولكن لا يجوز بحال من الأحوال، أن يعتمد المسلم على سعة عفو الله ورحمته فيتمادى على المعاصي على امتداد الأزمان والأجيال، ويصرَّ على الذنوب في الأقوال والأفعال، ثم يقول: سيغفر لنا ذو العزة والجلال، وهذا لا يجوز لأن معناه الأمن من مكر الله الكبير المتعال؛ والله تعالى يقول: {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} ويقول سبحانه: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأنا عذابي هو العذاب الأليم}.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ...
******************
4) من شروط الحج المبرور الإخلاص في العمل
14ذو القعدة 1426ﻫ 16/12/2005م
الحمد لله نحمده أن جعل الإخلاصَ أساسَ العبادة، ونشكره سبحانه وهو المنعم علينا بدأ وإعادة. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصين له الشهادة، أمر الحجاج بإتمام المناسك لله حتى يحققوا لأنفسهم في الدارين السعادة، فينالوا من الله تعالى على إخلاصهم الذكر والإشادة. ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الكريم الرفادة، أفضل من أخلص لله فكان له حسنُ الإدارة وصدقُ الإرادة. صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين حققوا بإخلاصهم الاستفادة والإفادة، فكانت لهم في التاريخ الريادةُ والقيادةُ، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم يكون فيه نصيب هذه الدنيا النهايةَ والإبادةَ.
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته
ها هم وفود الحجاج قريبا سوف يغادرون البلاد إلى رحاب مكة المكرمة لأداء فريضة الحج وهو أفضل الجهاد، وإلى نفحات المدينة المنورة حيث قبر سيد العباد. والحج لا يكون مأجورا إلا بأخلاق كريمة، ولا يكون مبرورا إلا بشروط سليمة، ومن هذه الشروط الإخلاص، وهو الركن الأعظم الذي لا مفر من المحافظة عليه ولا مناص، يقول الله عز وجل: {وأتموا الحج والعمرة لله}، ويقول النبيﷺ في حجته: «اللهم اجعلها حجة لا رياء فيها ولا سمعة». فبالإخلاص يقبل الله عز وجل المناسك، ويسهل إلى الجنة المسالك، وبه يكون الحج مبرورا، والسعي مشكورا، والذنب مغفورا. والذي يقصد بحجه تغيير الاسم واللقب، أو اكتساب الشهرة والمنزلة بين النخب، أو المنافسة للآخرين في الرياء والمظهر الكذب، فسينال من الله الغضب والعذاب، حيث لا جزاء له ولا ثواب.
وفي الحقيقة يا عباد الله أن أي عمل لا يصح ولا يقبل إلا بالإخلاص، يقول النبيﷺ فيما روى النسائي بسند جيد: «إن الله لا يَقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتُغي به وجهه»
إن الإخلاص عنصر أساسي في سائر العبادات، ولذلك دعانا إليه ربنا الكريم في كثير من الآيات، وحث عليه نبيناﷺ في كثير من المناسبات، يقول الله عز وجل: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}، ويقول تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين}، ويقول سبحانه: {قل الله أعبد مخلصا له ديني}، ويقول النبيﷺ فيما روى البخاري ومسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
فالإخلاص هو روحُ العملِ ولُبُّه، يقول ابنُ عَطَاء الله في حكمه: "الأعمال صُوَر قائمة –كالتماثيل-، وروحُها وجودُ سرِّ الإخلاص فيها". وبغير الإخلاص، تُصبح الأعمال صورة بلا حياة، وجثة بلا روح، والله عز وجل إنما يريد من الأعمال حقائقها وأهدافها، لا صورها ورسومها، لا يقبل العمل المغشوش، ولا الفعل المخدوش، والله تعالى يقول في شأن الهدي الذي يقدمه الحجاج والعمار: {لن ينال الله لحومها ولا دمائها ولكن يناله التقوى منكم}، ويقول النبيﷺ فيما روى الإمام مسلم: «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم وصوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم».
وقد مدح الله تعالى المخلِصين بمدح لطيف فقال سبحانه: {إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما}، وألقى على المرائين باللَّوْم الشديد والزَّجْر العَنِيف فقال سبحانه: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراءون ويمنعون الماعون}، وقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كالذي ينفق ماله رئاء الناس}.
أيها الاخوة المؤمنون! لقد سجل الصحابة في الإخلاص مواقف ناصعة، وأعمالا ساطعة، وقدموا لنا نماذجَ تُجَسِّد الإخلاصَ في وقائِعَ رائعة، وتُبرِز لأولي الألباب القدوةَ النافعة، والعبرة الرادعة، لقد كانت أفعالهم وأقوالهم كلُّها لله وحده لا شريك له، لأنه استوى في حسابهم مدحُ الناس وذمُّهم، نسُوا رؤيةَ الخلْق بدوام تفكرهم في الخالق، استوت أفعالهم في الظاهر والباطن، نظروا في الإخلاص فلم يجدوا غير أن تكون حركاتهم وسكناتهم في سرهم وعلانيتهم لله تعالى وحده، لا يمازجه في ذلك شيء، لا نفس ولا هوى ولا دنيا. فكان الله معهم في سائر الأمور، ففرَّجَ عنهم الكربات، وحَطَّ عنهم السيئات، ونصرهم على أعدائهم، فنشروا دين الله في بقاع الأرض، رغم أنهم فقراءُ المال، ضعفاءُ الجَاه، يقول فيهم المصطفىﷺ : «إنما يَنصر اللهُ هذه الأمةَ بضَعِيفها -أي بضعفائها- بِدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم» رواه النسائيُّ وغيرُه بسند صحيح.
أما اليوم فالإخلاص قد قل وجودُه، وأصبح المتخلقون به عملة صعبة، وهذا من أسباب انحطاط المسلمين وعوامل ضَعفهم ووهنهم وتخاذلهم، فما وهن المسلمون اليوم أمام عدوهم في كثير من القضايا إلا بسبب عدم الإخلاص في العمل، وموت الضمير المهني في السر والعلن، حيث لا تسير الأعمال إلا بالرشوة الملعونة، وحيث يتعامل الجبناء بالمحسوبية الممقوتة، فتدار الأعمال من تحت الطاولة، وتصرف الأشغال بشفافية مزورة، يقول النبيﷺ: «خمس بخمس: ما نقض قوم العهدَ إلا سلط عليهم عدوهم…» رواه الطبراني وهو حديث صحيح. والعهد الذي بيننا وبين الله تعالى، هو أن نخلصَ له سائرَ الأعمال والأقوال. فهل يعي المسلمون أهميةَ هذا الركنِ العظيم، وهذا العملِ القلبيِّ الجسيم؟ فيجتمعون على مائدة الإخلاص، وينطلقون من قاعدة الإخلاص، ويسيرون على درْب الإخلاص، ليكونوا عباد الله المخلَصين.
أيها الاخوة المؤمنون! إن من فضل الله ورحمته، أنه سبحانه يكتب ثواب الحج والعمرة لغير الحجاج والمعتمرين، الذين في نيتهم أن يحجوا، لكن الظروف القاسية منعتهم. وقد جاء في الأثر: «النية أبلغ من العمل»، وروى الإمام مسلم، أن النبيﷺ قال: قال الله عز وجل: «إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة، فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها».
فهذا الحديث الشريف، يبين لنا مدى فضل الله ورحمته بنا، إذ يمنحنا الثواب والأجر على مجرد صدق نيتنا، ومن هنا أبشر كل مؤمن ومؤمنة، ينويان أن يذهبا إلى الحج، لكن الظروف منعتهما، أبشرهما بأن الله عز وجل سيجازيهما على هذه النية الصادقة، وهذا رسول اللهﷺ يؤكد هذا فيقول لأصحابه وهم راجعون من غزوة تبوك: «إن أقواما خلْفَنا بالمدينة، ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا، -وفي رواية: إلا وشاركوكم الأجر- حبسهم العذر» رواه البخاري . ورحم الله الشاعر إذ يقول:
يا سائرا إلى البيت العتيق لقد***سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إذا أقمنا على عذر وقد راحوا***فمن أقام على عذر كـمن راحا
يقول الله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحيايَ ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}.
صدق الله العظيم وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين، والحمد لله رب العالمين.
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته
ها هم وفود الحجاج قريبا سوف يغادرون البلاد إلى رحاب مكة المكرمة لأداء فريضة الحج وهو أفضل الجهاد، وإلى نفحات المدينة المنورة حيث قبر سيد العباد. والحج لا يكون مأجورا إلا بأخلاق كريمة، ولا يكون مبرورا إلا بشروط سليمة، ومن هذه الشروط الإخلاص، وهو الركن الأعظم الذي لا مفر من المحافظة عليه ولا مناص، يقول الله عز وجل: {وأتموا الحج والعمرة لله}، ويقول النبيﷺ في حجته: «اللهم اجعلها حجة لا رياء فيها ولا سمعة». فبالإخلاص يقبل الله عز وجل المناسك، ويسهل إلى الجنة المسالك، وبه يكون الحج مبرورا، والسعي مشكورا، والذنب مغفورا. والذي يقصد بحجه تغيير الاسم واللقب، أو اكتساب الشهرة والمنزلة بين النخب، أو المنافسة للآخرين في الرياء والمظهر الكذب، فسينال من الله الغضب والعذاب، حيث لا جزاء له ولا ثواب.
وفي الحقيقة يا عباد الله أن أي عمل لا يصح ولا يقبل إلا بالإخلاص، يقول النبيﷺ فيما روى النسائي بسند جيد: «إن الله لا يَقبل من العمل إلا ما كان خالصا وابتُغي به وجهه»
إن الإخلاص عنصر أساسي في سائر العبادات، ولذلك دعانا إليه ربنا الكريم في كثير من الآيات، وحث عليه نبيناﷺ في كثير من المناسبات، يقول الله عز وجل: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}، ويقول تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين}، ويقول سبحانه: {قل الله أعبد مخلصا له ديني}، ويقول النبيﷺ فيما روى البخاري ومسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
فالإخلاص هو روحُ العملِ ولُبُّه، يقول ابنُ عَطَاء الله في حكمه: "الأعمال صُوَر قائمة –كالتماثيل-، وروحُها وجودُ سرِّ الإخلاص فيها". وبغير الإخلاص، تُصبح الأعمال صورة بلا حياة، وجثة بلا روح، والله عز وجل إنما يريد من الأعمال حقائقها وأهدافها، لا صورها ورسومها، لا يقبل العمل المغشوش، ولا الفعل المخدوش، والله تعالى يقول في شأن الهدي الذي يقدمه الحجاج والعمار: {لن ينال الله لحومها ولا دمائها ولكن يناله التقوى منكم}، ويقول النبيﷺ فيما روى الإمام مسلم: «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم وصوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم».
وقد مدح الله تعالى المخلِصين بمدح لطيف فقال سبحانه: {إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما}، وألقى على المرائين باللَّوْم الشديد والزَّجْر العَنِيف فقال سبحانه: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراءون ويمنعون الماعون}، وقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كالذي ينفق ماله رئاء الناس}.
أيها الاخوة المؤمنون! لقد سجل الصحابة في الإخلاص مواقف ناصعة، وأعمالا ساطعة، وقدموا لنا نماذجَ تُجَسِّد الإخلاصَ في وقائِعَ رائعة، وتُبرِز لأولي الألباب القدوةَ النافعة، والعبرة الرادعة، لقد كانت أفعالهم وأقوالهم كلُّها لله وحده لا شريك له، لأنه استوى في حسابهم مدحُ الناس وذمُّهم، نسُوا رؤيةَ الخلْق بدوام تفكرهم في الخالق، استوت أفعالهم في الظاهر والباطن، نظروا في الإخلاص فلم يجدوا غير أن تكون حركاتهم وسكناتهم في سرهم وعلانيتهم لله تعالى وحده، لا يمازجه في ذلك شيء، لا نفس ولا هوى ولا دنيا. فكان الله معهم في سائر الأمور، ففرَّجَ عنهم الكربات، وحَطَّ عنهم السيئات، ونصرهم على أعدائهم، فنشروا دين الله في بقاع الأرض، رغم أنهم فقراءُ المال، ضعفاءُ الجَاه، يقول فيهم المصطفىﷺ : «إنما يَنصر اللهُ هذه الأمةَ بضَعِيفها -أي بضعفائها- بِدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم» رواه النسائيُّ وغيرُه بسند صحيح.
أما اليوم فالإخلاص قد قل وجودُه، وأصبح المتخلقون به عملة صعبة، وهذا من أسباب انحطاط المسلمين وعوامل ضَعفهم ووهنهم وتخاذلهم، فما وهن المسلمون اليوم أمام عدوهم في كثير من القضايا إلا بسبب عدم الإخلاص في العمل، وموت الضمير المهني في السر والعلن، حيث لا تسير الأعمال إلا بالرشوة الملعونة، وحيث يتعامل الجبناء بالمحسوبية الممقوتة، فتدار الأعمال من تحت الطاولة، وتصرف الأشغال بشفافية مزورة، يقول النبيﷺ: «خمس بخمس: ما نقض قوم العهدَ إلا سلط عليهم عدوهم…» رواه الطبراني وهو حديث صحيح. والعهد الذي بيننا وبين الله تعالى، هو أن نخلصَ له سائرَ الأعمال والأقوال. فهل يعي المسلمون أهميةَ هذا الركنِ العظيم، وهذا العملِ القلبيِّ الجسيم؟ فيجتمعون على مائدة الإخلاص، وينطلقون من قاعدة الإخلاص، ويسيرون على درْب الإخلاص، ليكونوا عباد الله المخلَصين.
أيها الاخوة المؤمنون! إن من فضل الله ورحمته، أنه سبحانه يكتب ثواب الحج والعمرة لغير الحجاج والمعتمرين، الذين في نيتهم أن يحجوا، لكن الظروف القاسية منعتهم. وقد جاء في الأثر: «النية أبلغ من العمل»، وروى الإمام مسلم، أن النبيﷺ قال: قال الله عز وجل: «إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة، فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها».
فهذا الحديث الشريف، يبين لنا مدى فضل الله ورحمته بنا، إذ يمنحنا الثواب والأجر على مجرد صدق نيتنا، ومن هنا أبشر كل مؤمن ومؤمنة، ينويان أن يذهبا إلى الحج، لكن الظروف منعتهما، أبشرهما بأن الله عز وجل سيجازيهما على هذه النية الصادقة، وهذا رسول اللهﷺ يؤكد هذا فيقول لأصحابه وهم راجعون من غزوة تبوك: «إن أقواما خلْفَنا بالمدينة، ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا، -وفي رواية: إلا وشاركوكم الأجر- حبسهم العذر» رواه البخاري . ورحم الله الشاعر إذ يقول:
يا سائرا إلى البيت العتيق لقد***سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إذا أقمنا على عذر وقد راحوا***فمن أقام على عذر كـمن راحا
يقول الله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحيايَ ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}.
صدق الله العظيم وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون! وإذا كنا نودع هذه الأيام القوافل الأولى للحجاج، فإن من الواجب علينا الوقوف على السنة النبوية في الوداع، هذا الوداع السني الذي نسيناه أو تغافلنا عنه، فاستبدلناه بتلك الكلمات الخاوية الجوفاء، التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، ولا تحمل من الدعاء قطميرا، فمن الناس من يقول في وداعه: إلى اللقاء، ومنهم من يقول: وداعا، فأغرب بعضهم واغترب أكثر فكان وداعه (بـي بـي) بينما الرسولﷺ يودع المسافرين بأربعة أمور:
أولا: جعل المسافر وديعة وأمانة في يد الله تعالى، ولن يضيع من كان وديعة في يده سبحانه وتعالى، وقد كانﷺ إذا ودع أصحابه في السفر يقول فيما روى الترمذي: "أستودع الله دينك وأمانتك وخواتم أعمالك" وفي روية "أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه" ومعنى أستودعكم الله أطلب منه لكم الحفظ والحماية.
ثانيا: تقديم وصية تنفع المسافر في دينه ودنياه، روى الترمذي أن رجلا قال: يا رسول الله! أريد أن أسافر فأوصني. فقالﷺ: "عليك بتقوى الله والتكبير على كل شرف" لقد أوصاهﷺ بأمرين هامين: أن يتحلى في معاملاته بتقوى الله وخير الزاد التقوى، وذلك بامتثال أوامره سبحانه واجتناب نواهيه، وأن يكون قلبه مرتبطا بخالقه بذكر الله أكبر، {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}.
ثالثا: الدعاء للمسافر بالخير والتوفيق، روى الترمذي أن رجلا جاء إلى النبيﷺ فقال: يا رسول الله! إني أريد سفرا فزودني. قالﷺ : "زودك الله بالتقوى، وغفر ذنبك، ويسر لك الخير حيثما كنت" وفي رواية "فلما ولى الرجل قالﷺ: "اللهم اطو له البعد وهون عليه السفر".
رابعا: طلب الدعاء من المسافر لأن دعاءه مستجاب، روى الترمذي أن النبيﷺ قال: "ثلاث دعوات مستجابة: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده" وخصوصا عندما يكون هدف المسافر أداء مناسك الحج والعمرة، روى أبو داوود والترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله قال: استأذنت النبيﷺ في العمرة فأذن وقال: "لا تنسنا يا أُخَيَّ من دعائك" وفي رواية "أشركنا يا أُخَيَّ في دعائك" فقال عمر رضي الله معلقا على هذا الطلب النبوي: إنها كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ…
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون! وإذا كنا نودع هذه الأيام القوافل الأولى للحجاج، فإن من الواجب علينا الوقوف على السنة النبوية في الوداع، هذا الوداع السني الذي نسيناه أو تغافلنا عنه، فاستبدلناه بتلك الكلمات الخاوية الجوفاء، التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، ولا تحمل من الدعاء قطميرا، فمن الناس من يقول في وداعه: إلى اللقاء، ومنهم من يقول: وداعا، فأغرب بعضهم واغترب أكثر فكان وداعه (بـي بـي) بينما الرسولﷺ يودع المسافرين بأربعة أمور:
أولا: جعل المسافر وديعة وأمانة في يد الله تعالى، ولن يضيع من كان وديعة في يده سبحانه وتعالى، وقد كانﷺ إذا ودع أصحابه في السفر يقول فيما روى الترمذي: "أستودع الله دينك وأمانتك وخواتم أعمالك" وفي روية "أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه" ومعنى أستودعكم الله أطلب منه لكم الحفظ والحماية.
ثانيا: تقديم وصية تنفع المسافر في دينه ودنياه، روى الترمذي أن رجلا قال: يا رسول الله! أريد أن أسافر فأوصني. فقالﷺ: "عليك بتقوى الله والتكبير على كل شرف" لقد أوصاهﷺ بأمرين هامين: أن يتحلى في معاملاته بتقوى الله وخير الزاد التقوى، وذلك بامتثال أوامره سبحانه واجتناب نواهيه، وأن يكون قلبه مرتبطا بخالقه بذكر الله أكبر، {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}.
ثالثا: الدعاء للمسافر بالخير والتوفيق، روى الترمذي أن رجلا جاء إلى النبيﷺ فقال: يا رسول الله! إني أريد سفرا فزودني. قالﷺ : "زودك الله بالتقوى، وغفر ذنبك، ويسر لك الخير حيثما كنت" وفي رواية "فلما ولى الرجل قالﷺ: "اللهم اطو له البعد وهون عليه السفر".
رابعا: طلب الدعاء من المسافر لأن دعاءه مستجاب، روى الترمذي أن النبيﷺ قال: "ثلاث دعوات مستجابة: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده" وخصوصا عندما يكون هدف المسافر أداء مناسك الحج والعمرة، روى أبو داوود والترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله قال: استأذنت النبيﷺ في العمرة فأذن وقال: "لا تنسنا يا أُخَيَّ من دعائك" وفي رواية "أشركنا يا أُخَيَّ في دعائك" فقال عمر رضي الله معلقا على هذا الطلب النبوي: إنها كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ…
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
نسعد بتعليقاتكم ومقترحاتم تهمنا