خطبة تتناول مسألةطعام العزاء حكمه وماأحدث الناس فيه في زماننا
أئمة مروك إعداد: عبدالله بنطاهر
طعام العزاء بعد الوفاة بين محاسن الإتباع ومساوي الابتداع
(في إطار توظيف السيرة النبوية في عملية الإصلاح)
(في إطار توظيف السيرة النبوية في عملية الإصلاح)
الحمد لله الذي بعث المصطفىﷺ ليتمم مكارم الأخلاق، فجعل سيرته موضع الاقتداء والوفاق، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون لأنه أجدر بالمنافسة والسباق، وأشهد أن لا إله إلا الله قسم بين الناس الأعمال والأرزاق وجعل الموت حقا يهدم اللذات والأذواق، وأمر بذكر وتذكره ذرء للفساد والشقاق، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله دعا إلى الاتحاد والاتفاق، وهو أشفق الناس على المساكين واليتامى بالإحسان والإنفاق، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين حاربوا الشرك والنفاق، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم تلتف فيه الساق بالساق، إلى ربك يومئذ المساق.
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
قد منا لكم في الجمعة الماضية في إطار توظيف السيرة النبوية في عملية الإصلاح أن الإشاعات الكاذبة أثرها سيء على الفرد والمجتمع، وعلى الشعوب والأمم؛ انطلاقا من تلك الإشاعة التي قام النبيﷺ بمواجهتها ومحاربتها في غزوة مؤتة.
قد منا لكم في الجمعة الماضية في إطار توظيف السيرة النبوية في عملية الإصلاح أن الإشاعات الكاذبة أثرها سيء على الفرد والمجتمع، وعلى الشعوب والأمم؛ انطلاقا من تلك الإشاعة التي قام النبيﷺ بمواجهتها ومحاربتها في غزوة مؤتة.
وقدمنا لكم أن غزوة مؤتة هي معركة درات حلقاتها في حدود الشام؛ حيث قابل فيها جيش المسلمين وعدد المقاتلين فيه ثلاثة آلاف، جيشا من دولة الروم الصليبية قوامه مائتا ألف، وهي معركة غير متكافئة من جميع المقاييس ماديا، ولكن معنويا فالمجاهد المسلم يقابل في القرآن الكريم في بعض الظروف بواحد أمام عشرة؛
يقول الله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ}؛ الشيء الذي أدى إلى الاستشهاد ثلاثة من قادة المسلمين الكبار: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، ثم تولى القيادة خالد بن الوليد فانسحب من المعركة؛ لأنه رأى أن الاستمرار في المشاركة في معركة غير متكافئة بمنزلة الانتحار الجماعي لجيش المسلمين.
وبعد رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وجد الشائعات الكاذبة بأنه انهزم وفر وفشل قد سبقته إليها، والشائعات دائما تسبق الحقائق، فالتقى به الأطفال في مظاهرات سليمة مرددين: «يا فرار يا فرار»، فتدخل النبيﷺ على جناح السرعة مكذبة الشائعة، رادًّا ومرددا: «ليسوا بالفرار؛ بل الكرار».
وقد أخبر جبريل عليه السلام النبيﷺ باستشهاد القادة الثلاثة (زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة) قبل وصول الجيش المنسحب؛ فذهب لتعزية أبناء الشهداء وقد أصبحوا يتامى، فواساهم وسد حاجاتهم وأدخل الفرح إلى قلوبهم، فوجد أولاد جعفر يبكون، فقالﷺ للصحابة: «اصنعوا لأهل جعفر طعاما؛ فإنه قد جاءهم ما يَشْغَلُهم»
فتعالوا بنا اليوم انطلاقا من هذه المعركة نفسها، لنصلح ظاهرة أخرى بدأ أمرها يستفحل بشكل لافت للانتباه؛ فالأصل الذي تفرضه حسن الأخلاق، ويوافق التعامل الإنساني الحضاري النبيل هو أن نكون بجانب من أصيب في أحد من أهله بالموت، بتقديم المساعدة المستعجلة له؛ لأنه طبعا سيكون في غم وهم، نظرا لهول المصيبة التي تعرض لها، ولفرط البأس الذي فاجأه؛ ذرء للبؤس عنه وحفاظا له من اليأس؛
وسنة النبيﷺ -وهي هنا تقديم الطعام لأهل الميت- لم تكن أبدا لتخالف مقتضيات الإنسانية النبيلة؛ وما انتشر في مجتمعنا بين الناس مما يسمى "عشاء الميت" أو "مأدبة العزاء" يدخل ضمن العوائد المتجذرة، والأعراف المتأصلة، دون أن يكون لها سند شرعي مناسب لمناسبتها، وإن كانت تدخل ضمن النصوص العامة المرغِّبة في الصدقة على الميت في أي وقت كانت؛ وسنة النبيﷺ هنا ماتت ولا يعرفها أحد؛
بل استبدلناها بعكسها، فانقلبت لدينا الموازين، ونكست المعايير، فأصبحنا ننتظر ممن مات أن يصنع لنا أهله طعاما، كأن مصيبتهم لا تكفي عندنا، وأصبح من أصيب بالموت في أهله سرعان ما ينصب خيمة كأنها خيمة عرس يراد إعلانه، أو حفلة زواج يتطلب إشهاره، ومنهم من يستدعي لخيمة العزاء هذه المنشدين والمنشدات، مع الضرب بالدفوف في أبواق الصخب والصراخ، كأن هذا الذي مات إنما عقد قرانه مع الموت، أو أن أهله ينتظرون وفاته، أما وقد تخلصوا منه فما يمنعهم أن يفرحوا ويهللوا ويستمعوا للأناشيد ويستمتعوا بالضرب بالدفوف...، لم يبق إلا أن يحملوا الميت ويرقصوا به في (ميسان) نعشه كما يرقصون بالعريس في (جفنة) عرسه؛ وإن كان في جفنة العريس ما فيها من المفاتن والمفاسد.
من أجل هذا كان لا بد من إحياء سنة إطعام أهل الميت؛ بدل أن يكونوا في غم الموت والفقدان، فنزيدهم همّ الأكل والطعام؛ والنبيﷺ يقول: «إعلم أنَّ من أحيا سُنَّة من سُنَّتي قد أمِيتَتْ بعدي، كان له من الأجرِ مِثْلُ مَنْ عمل بها، مِنْ غير أن يَنْقُص ذلك من أجورهم شيئا، ومن ابتدَع بِدْعَة ضلالَة لا يرضاها الله ورسولُه كان عليه مِثْلُ آثام مَنْ عمل بها، لا ينقصُ ذلك من أوزارِ الناس شيئا».
أما طعام العزاء فالناس فيه مختلفون؛ فمنهم من تطرف فاعتبره حراما، ومنهم من تحرف فاعتبره حلالا، ومنهم من توسط فاعتبر أن الأمر فيه تفصيلا وخير الأمور أوسطها.
نعم -أخي المسلم- الصدقة على الميت أمر مشروع، والدعاء للميت أمر مطلوب، وكذلك قراءة القرآن الكريم ثم الدعاء بإيصال ثواب القراءة للميت أمر لا غبار عليه عند جمهور العلماء؛ لأنه يخرج مخرج الدعاء؛ ولا يستطيع أحد أن يقول: إن طعام العزاء بعد الوفاة حرام، إلا من كان من عادته التعنت، أو التصلب على ظواهر النصوص، منغلقا عن فحواها، متشددا في فتواها؛
نعم -أخي المسلم- الصدقة على الميت أمر مشروع، والدعاء للميت أمر مطلوب، وكذلك قراءة القرآن الكريم ثم الدعاء بإيصال ثواب القراءة للميت أمر لا غبار عليه عند جمهور العلماء؛ لأنه يخرج مخرج الدعاء؛ ولا يستطيع أحد أن يقول: إن طعام العزاء بعد الوفاة حرام، إلا من كان من عادته التعنت، أو التصلب على ظواهر النصوص، منغلقا عن فحواها، متشددا في فتواها؛
لأن الأصل في الأشياء الإباحة؛ ولكن لا بد من الوقوف عند طعام العزاء بين محاسن الاتباع ومساوي الابتداع، ولذلك فالصدقة على الميت هي على نوعين:
النوع الأول: أن تكون الصدقة ومصارفها من غير المال الذي كان في ملك الميت أثناء وجوده في قيد الحياة؛ كأن يتبرع أحدهم بذلك؛ فهذا لا بأس به، وهو أمر مشروع ومطلوب، الأدلة على جوازها كثيرة؛ منها ما روى أبو داود أن الصحابي الجليل سعد بن عبادة سأل النبيﷺ عن أفضل صدقة يتصدق بها عن أمه التي ماتت وهو غائب في الشام فقال: «يا رسول الله! إن أم سعد ماتت فأي الصدقة أفضل؟ قالﷺ: «الـمـاء» فحفر بئرا وقال: هذه لأم سعد».
النوع الثاني: أن تكون الصدقة ومصارفها من المال الذي كان في ملك الميت أثناء وجوده في قيد الحياة، وهنا مربط الفرس؛ لأنه مال الورثة وقد يكون من بينهم أيتام صغار، والله تعالى يقول: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}، فأكل طعام اليتيم، يتحول يوم القيامة إلى طعام الأثيم، كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم؛
روى الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كنا نَعُدُّ الاجتماعَ إلى أهل الميت وصنيعةَ الطعام بعد الدفن من النياحة»؛ فلهذا لا يجوز التصرف في مال الميت بالتصدق به إلا في حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون قد أوصى بذلك في حياته فتنفذ وصيته في ثلث ماله فأقل، ولا يجوز أن تتجاوزه؛ روى البخاري أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال بأنه مرض في مكة مرضا شديدا «فجاءني رسولُ اللهﷺ يعودُني، فقلت: يا رسولَ الله؛ إني أترك مالا، وإني لم أتركْ إلا ابنة واحدة، أفأُوصي بثُلُثَيْ مالي، وأترك الثلث؟ قالﷺ: لا، فقلت: أفأوصي بالنصف، وأترك النصف؟ قالﷺ: لا، قلت: أفأوصي بالثلث، وأترك الثلثين؟ قالﷺ: الثلثُ، والثلثُ كثير».
الحالة الثانية: أن يكون الورثة كلهم قد بلغوا سن الرشد، واتفقوا كلهم على أخذ ما يتطلبه إخراج الصدقة على ميتهم من ماله أو ما يسمى طعام العزاء أو عشاء القبر؛ بشرط ألا يكون في ذلك إسراف وترف وبذخ ينسي واقع الموت وخشوعه فيكون كالأعراس، وأن يسلم من المبارزات الممنوعة في الرياء والسمعة.
وبهذا قال علماء المذهب المالكي؛ فقد جاء في كتاب شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني لأحمد بن غنيم النفراوي ما يلي: "وأما ما يصنعه أقارب الميت من الطعام وجمع الناس عليه فإن كان لقراءة قرآن ونحوها مما يرجى خيره للميت فلا بأس به، وأما لغير ذلك فيكره، ولا ينبغي لأحد الأكل منه إلا أن يكون الذي صنعه من الورثة بالغا رشيدا فلا حرج في الأكل منه، وأما لو كان الميت أوصى بفعله عند موته فإنه يكون في ثلثه ويجب تنفيذه عملا بفرضه".
وقال الشيخ محمد الطالب بن الحاج الفاسي الفقيه المالكي في حاشيته على منظومة ابن عاشر (2 / 6) في معرض كلامه على ما يجوز التصدق به على الميت: "وكذا إطعام الطعام للفقراء والمساكين المعروف بعشاء القبر، إن سلم من الرياء والسمعة، وأن لا يترك أيتاما صغارا؛ إلا أن يوصي بذلك الميت ولم يزد على الثلث".
ومما سبق يتبين لنا أن طعام العزاء ليس حراما إلا في حالة واحدة إذا كان من مال الميت وكان من بين ورثته يتامى صغار.
أما ربط الصدقة من أجل الميت بزمن معين مثل ثلاثة أيام أو الذكرى السنوية فلا بأس بذلك -إن شاء الله- لأنه عرف لا يخالف شرعا؛ إلا إذا كان فيه الاقتداء بالفرق الضالة أو الكافرة، مثل الشيعة الروافض فيما يسمى "ذكرى الأربعين الحسينية"، وهي من طقوس اليهود أيضا، ومن عادات الفراعنة الذين يحنطون الجثة مدة أربعين يوماً؛ فاختياره للصدقة والإطعام فيما يسمى بالأربعين بدعة محرمة يجب مجانبتها، ولا يدل على ذلك ما روى البيهقي في شعب الإيمان عن إمام التابعين مجاهد قال: "إن الأرض لتبكي على المؤمن أربعين صباحا"؛ لأنها لا تدل على الطعام ولا على الصدقة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين...
أما بعد؛ فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ المطلوب منا أثناء زيارة أهل الميت في خيمة العزاء سوء أحيينا السنة فقدمنا لهم الطعام، أو قدموا لنا الطعام من مالهم الخاص صدقة على ميتهم؛ فالمطلوب منا القيام بثلاثة أمور: واحد لفائدة جميع من حضر، وواحد لفائدة أهل الميت، وواحد لفائدة الميت:
أما بعد؛ فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ المطلوب منا أثناء زيارة أهل الميت في خيمة العزاء سوء أحيينا السنة فقدمنا لهم الطعام، أو قدموا لنا الطعام من مالهم الخاص صدقة على ميتهم؛ فالمطلوب منا القيام بثلاثة أمور: واحد لفائدة جميع من حضر، وواحد لفائدة أهل الميت، وواحد لفائدة الميت:
1) أما لفائدة جميع من حضر فهو العبرة؛ فالإسلام حينما شرع لنا التعامل مع الميت قبل الوفاة وبعد الوفاة؛ بدأ بعيادة المريض، وقراءة سورة يس على الأموات، وتوجهيه للقبلة أثناء خروج روحه، ثم غسله وتكفينه والصلاة علية وتشييع جنازته ودفنه، ثم زيارة قبره بعد ذلك؛ إنما الهدف من ذلك هو العبرة، والعبرة هي إحساس يشعر به الإنسان في قلبه يدفعه إلى أمرين:
إدراك، واستدراك؛ إلى إدراك ما فعل من شر العمل وعمل الشر، وإلى استدراك ما فاته من عمل الخير وخير العمل، فيدفعه ذلك إلى مراجعة حساباته في الدنيا فيجتنب شرورا كان يرتكبها وذنوبا كان يمارسها، حتى يغتنم الفرصة قبل فوات الأوان، قبل أن يلتحق بهذا الميت الذي عالج أمره حتى دفنه ورد عليه التراب، ويوما ما سيكون مثله.
كل أبن أنثى وان طالت سلامته***يوما على آلة الحدباء محمول
2) أما لفائدة أهل الميت فهو التعزية وهي التصبر، وشعاره: {إنَّا لِله وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ}، وكان النبيﷺ يقول في التعزية كما في الحديث المتفق عليه: «إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلُّ عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب».
2) أما لفائدة أهل الميت فهو التعزية وهي التصبر، وشعاره: {إنَّا لِله وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ}، وكان النبيﷺ يقول في التعزية كما في الحديث المتفق عليه: «إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلُّ عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب».
3) أما لفائدة الميت فهو الدعاء له؛ روى أبو داود عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: «كان رسولُ اللهﷺ إذا فَرَغ من دفن الميت وقَفَ عليه، وقال: استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآنَ يُسأَل»، وروى الإمام مسلم أن النبيﷺ قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم يُنْتَفَعُ به، أو ولد صالح يدعو له».
ونحن مع الأسف تعودنا أن لا نسمع أو نقرأ القرآن إلا في مناسبات العزاء حتى نرسخ في نفوسنا ربط القرآن بالأحزان؛ بينما القرآن الكريم هو كتاب حياة وليس كتاب موت؛ نزل على النبيﷺ كما قال الله تعالى: {لتنذر من كان حيا} لا لتمرير الأموات إلى رحمة الله...
ألا فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
نسعد بتعليقاتكم ومقترحاتم تهمنا