خطبة مكتوبة:الزكاةبين أداءفرضها وعقوبة رفضها
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
من المعلوم في بداية شهر محرم ولله الحمد أن كثيرا من الناس في هذا الشهر يخرجون زكاة أموالهم؛ فهنيئا لمن برأ ذمته وطهر نفسه وزكى ماله، هنيئا له السكن والطمأنينة، يقول الله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، وويل لمن ضيع زكاة ماله، ولوث نفسه، ويل له من عقوبة لا يموت فيها ولا يحيا.
فتعالوا بنا اليوم نرفع الستار عن الزكاة بين أداء فرضها وعقوبة رفضها، لنقف على ثواب يعاينه من أداها، وعلى عقاب يعانيه من منعها، ولنعرف ما يترتب على أدائها من منافع وفوائد مؤثرة، وعلى رفضها من متاعب ومصاعب مثيرة.
أما من أدى فرضها فيكفي أن نعلم أن ثوابه ينمو ويربو، ويتضاعف في كف الرحمن حتى يكون أعلى من الجبل، وإن كانت تمرة كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روى البخاري ومسلم. ويقول الله تبارك وتعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء)، ويكفي أن نعلم أن الزكاة تطفئ الخطايا وتمحو الذنوب؛ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار». ويقول صلى الله عليه وسلم: «اتقوا النار ولو بشق تمرة».
أما عقوبة رفضها فتتمثل في أمرين: سوء المعيشة في الدنيا وسوء العذاب في الآخرة.
أما سوء المعيشة في الدنيا التي تنزل على مجتمع لا يخرج أغنياؤه زكاة أموالهم فاستمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم يبين ذلك إذ يقول فيما روى ابن خزيمة والحاكم وصححه: "إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره". والحديث يدل بمفهومه، على أن المال بدون الزكاة كله شر ونقمة ووبال على صاحبه، لا يجني منه إلا التعاسة النفسية والمادية في الدنيا، ومن تلك التعاسة جفاء القلوب، وجفاف الأمطار، والأخذ بالسنين، والأزمات الاقتصادية، وانتشار الفقر المدقع، ونزع البركة من المال والبنين، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجه وغيره: "ما منع قوم الزكاة إلا منع القطر ولولا البهائم لم يمطروا"، ويقول صلى الله عليه وسلم فيما روى الإمام مسلم: "ليست السنة بأن لا تمطروا! ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا، ولا تنبت الأرض شيئا" ويقول صلى الله عليه وسلم فيما روى الطبراني بسند رجاله ثقات: "ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين".
نعم -يا عباد الله- ها هو الواقع يشهد، وها هو الفقر المدقع يضرب رقمه القياسي في مسرح الأمة المسلمة، والمسلمون ليسوا في حاجة للثروات والأموال، بالقدر الذي هم في حاجة لتطبيق شريعتهم، لإخراج زكاة أموالهم، وخمس ركازهم وثرواتهم ومعادنهم؛ أليست الرقعة الإسلامية في الكرة الأرضية أغنى رقعة في العالم؟ لقد حبا الله العالم الإسلامي بخيرات وثروات هائلة، ولكنها متداولة في أيدي أفراد معدودين، فيا ليتهم صرفوها في الخير وأخرجوا زكاتها إذ أخذوها، إنهم يستنزفونها في نزواتهم وشهواتهم، فاجتاح سوادَ الأمة الفقرُ المدقعُ في صورة الجفاف وقلة الأمطار، أو الفياضانات وكثرة الأمطار، والغرمُ المفظعُ في صورة الديون الربوية القاتلة، والهرج والمرج في صورة الحروب الأهلية، وإن من العيب بمكان، أن يعاني بعض المسلمين من الجوع والعطش والبطالة، في حين يعاني البعض الآخر من الشبع والتخمة والبدانة! والتبذير يؤدي إلى التبديل؛ لا تبذر فيبدل الله عليك نعمه.
وفي الحقيقة -يا عباد الله- أن مشاكل الأمة اليوم حلها في أمرين: أن يخرج الأغنياء زكاة أموالهم، وألا تسرق أموال الأمة، وأعني بالأغنياء أولئك الذين يملك الواحد منهم ما يشبع شعبا بأكمله، ولا أعني بالسرقة هنا تلك الدراهم المعدودة التي تسرق بين حين وآخر بسب الفقر والعوز، وإنما أعني تلك الملايير الغير المعدودة، التي تسرق من الأمة كل حين، وتكدس بالبنوك بسب الشره والطمع، من طرف أولئك المختلسين الذين كل همهم أن يكنزوا الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم.
ذلكم -يا عباد الله- هو شر المال في الدنيا إذا لم تخرج زكاته، إنه الأخذ بالسنين، والأزمات الاقتصادية الخانقة، والقحط والجفاف، والفقر والجوع والحروب الطاحنة.
أما شره في الآخرة فشيء تقشعر منه الجلود، وتتفتت لذكره القلوب، فلنستمع للرسول صلى الله عليه وسلم يكشف عن صور يعذب الله فيها أولئك الذين ضيعوا الزكاة.
الصورة الأولى: يصور لنا فيها الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يأكل زكاة ماله، بإنسان بائس يوم القيامة، تحول ماله إلى ثعبان مسموم، قبيح المنظر مخيف، أقرع له زبيبتان، يلتف بصاحبه ويعذبه في وحشية القبر قائلا: أنا كنزك أنا مالك.
تصور -أخا الإسلام- حالة إنسان فاجأه ثعبان في الدنيا! لو اطلع عليه لملئ منه رعبا ولولى هاربا، فكيف به من لسعات ثعبان الآخرة، إذا لم يخرج زكاة ماله، حيث لا مفر ولا مفزع؛ في هذه الصورة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روى البخاري ومسلم: "من آتاه الله مالا، فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع، له زبيبتان، (أي نقطتان سوداوان فوق عينيه) يطوقه يوم القيامة … ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: (ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة).
الصورة الثانية: يصور لنا فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بعدسته النبوية، ذلك الإنسان البائس، الذي تحول ماله إلى صفائح من نار، يحرق بها جنبه وجبينه وظهره، في يوم طويل موحش، مقداره خمسون ألف سنة. وهل يحب المسلم أن يحرق بالنار في الدنيا، فإنها وإن وصلت في درجتها ما وصلت، ليست إلا جزء من سبعين جزء من نار جهنم كما جاء في الحديث المتفق عليه؛ في هذه الصورة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روى الإمام مسلم: "ما من صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفايح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بَرَدَت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيُرى سبيلُه: إما إلى الجنة، وإما إلى النار" يقول الله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم: هذا ما كنزتم لأنفسكم، فذوقوا ما كنتم تكنزون).
الصورة الثالثة: يصور فيها لنا الرسول صلى الله عليه وسلم وجبة مانعي الزكاة، تلك الوجبة التي تتمثل في الزقوم الذي يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى الترمذي وصححه: "لو أن قطرة من زقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على الناس معايشهم، فكيف بمن يكون طعامَه!" والتي تتمثل في الضريع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، جاءت هذه الصورة في ليلة الإسراء حيث رأى النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى البزار قوما يسرحون كما تسرح الأنعام إلى الضريع والزقوم ورضف جهنم، فقال صلى الله عليه وسلم: ما هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين لا يؤدون زكاة أموالهم، وما ظلمهم الله، وما ربك بظلام للعبيد.
الصورة الرابعة: يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الذي يأكل زكاة ماله دون وجه حق، يأتي يوم القيامة حاملا على ظهره ممتلكاته! بهائم كانت أو عمارات، أو سيارات، أو سفنا أو طائرات أو متاجر أو مصانع أو مواد، يعذب بحملها وقوته منهكة، لا تعدو قوة الفراش المبثوث. في هذه الصورة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روى البخاري ومسلم: (لا ينال أحد منكم من الزكاة شيئا، إلا جاء به يوم القيامة، يحمله على عنقه: بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر).
أيها الإخوة المؤمنون؛ نظرا لهذه الفتن والمهالك في الدنيا والآخرة، التي كان سببها عدم إخراج الزكاة، شن أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خلافته حربا ضد المرتدين حين رفضوا دفع الزكاة، فقال قولته المشهورة: "والله لو منعوني عقالا –أي حبر بعير– كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه" وبهذا كان أبو بكر رضي الله عنه أول حاكم أقام حربا دفاعا عن حقوق الفقراء والمساكين، فهل سمعتم قط في التاريخ بأن حاكما حارب من أجل حق الفقير؟ فالحروب التي قامت -وخصوصا في عصر الحضارة اليوم- كانت كلها من أجل قمع الفقراء، وتشريدهم واغتصاب أرضهم، واستعمار أوطانهم، واستغلال خيرات بلادهم، كانت كلها من أجل مصالح الأقوياء، من أجل إشباع شره الرغبات، وإطعام طمع الشهوات.
أما أبو بكر فقد تخرج من مدرسة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فسجل للتاريخ أول حاكم حارب من أجل إطعام الفقراء، من أجل إخراج الزكاة ممن مال الأغنياء…
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ إن الزكاة لا تكون مقبولة عند الله تعالى إلا بشروط ثلاثة لابد من توفرها: شرط قلبي (أي: مصدره القلب)، وشرط قبلي (أي: قبل الصدقة)، وشرط بعدي (أي: بعد الصدقة).
أما الشرط القلبي فهو أن تكون خالصة لوجه الله تعالى، فزكاة الرياء والسمعة مردودة على صاحبها يوم القيامة، والقرآن الكريم يقول فيه: (كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمثله كمثل صفوان) أي: حجر أملس (عليه تراب، فأصابه وابل) أي: مطر شديد (فتركه صلدا) أي: لا شيء عليه من التراب فلا ينبت شيئا، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: -وعد منها- رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه». ولا يضرك بعد ذلك إذا كانت صدقتك خالصة من قبلك أن يعلم الناس بها؛ فقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: الرجل يعمل العمل فيسره، فإذا اطلع عليه الناس أعجبه ذلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «له أجران: أجر السر، وأجر العلانية».
أما الشرط القبلي فهو أن تكون من المال الحلال، والله تعالى يقول: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله طيب ولا يقبل إلا طيبا».
أما الشرط البعدي فهو ألا تتبع بالمن والأذى؛ بأن تقول للإنسان الذي أعنتَه مفتخرا عليه: ألستُ قد تصدقتُ عليك وأعنتُك يوم كذا بكذا؟ ألم أُحسن إليك فجبرتُ حالك؟ فإن ذلك مبطل للزكاة يمحو جزائها وثوابها، والقرآن الكريم يقول في صدقة المنان: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى)، ويقول سبحانه: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى).
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم..
أئمةمروك_عبدالله بن طاهر التناني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
نسعد بتعليقاتكم ومقترحاتم تهمنا