خُلُقُ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِﷺ
من إعداد فضيلة الاستاذ : رشيد المعاشي:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَكْرَمُ مَنْ عَفَا وَصَفَحَ عَنِ الْعُصَاةِ وَالْمُذْنِبِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، أَمَرَ بِالعَفْوِ وَالصَّفْحِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، قُدْوَتُنَا فِي الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنِ الْمُخْطِئِينَ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ، وَمَنِ اِقْتَفَى أَثَرَهُمْ وَتَحَلَّى بِأَخْلَاقِهِمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ فَيَا أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْمُسْلِمُونَ:
مَا زِلْنَا نَتَنَزَّهُ وَإِيَّاكُمْ فِي رِيَاضِ أَخْلَاقِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَنَقْطِفُ بَعْضَ أَزْهَارِهَا لِنُزَيِّنَ بِهَا حَيَاتِنَا، فَنَسْعَدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ ﷺ قَالَ: أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ اَلْجَنَّةَ تَقْوى اَللَّهِ وَحُسْنُ اَلْخُلُقِ. وَسَنَعِيشُ الْيَوْمَ وَإِيَّاكُمْ – بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى - هَذِهِ اللَّحَظَاتِ الْمُبَارَكَةَ، وَهَذِهِ الدَّقَائِقَ الْمَعْدُودَةَ مَعَ خُطْبَةٍ بِعُنْوَانِ: خُلُقُ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَسَنُرَكِّزُ كَلَامَنَا عَلَى هَذَا الْعُنْوَانِ مِنْ خِلَالِ ثَلَاثَةِ عَنَاصِرَ:
الْعُنْصُرُ الْأَوَّلُ: مَفْهُومُ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَفَضْلُهُمَا، فَالْعَفْوُ – أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْمُسْلِمُونَ - هُوَ: أَنْ يَسْتَحِقَّ الْإِنْسَانُ حَقًّا، فَيُسْقِطَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِهِ. وَأَمَّا الصَّفْحُ فَهُوَ: تَرْكُ اللَّوْمِ وَالتَّأْنِيبِ وَالْعِتَابِ بَعْدَ الْعَفْوِ. وَلَا قِيمَةَ لَعَفْوٍ دُونَ صَفْحٍ، وَلَا قِيمَةَ لِصَفْحٍ دُونَ عَفْوٍ، لِأَن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُكَمِّلُ الْآخَرَ، وَهُمَا مِنْ أَفْضَلِ العِبَادَاتِ، وَأَجَلِّ مَا يَتَقَرَّبَ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى رَبِّهِ مِنَ الطَّاعَاتِ، فَبِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ يَنَالُ الْعَبْدُ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ وَالثَّوَابَ الْجَزِيلَ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.
الْعُنْصُرُ الثَّانِي: خُلُقُ الْعَفْوِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَحَبِيبُنَا مُحَمَّدٌ ﷺ قَدْ بَلَغَ الْقِمَّةَ وَالدَّرَجَةَ الْعَالِيَةَ فِي خُلُقِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، كَمَا هُوَ شَأْنُهُ ﷺ فِي كُلِّ خُلُقٍ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ، كَانَ عَفْوُهُ ﷺ يَشْمَلُ الْأَعْدَاءَ فَضْلاً عَنِ الْأَصْحَابِ، وَكَانَ ﷺ أَجْمَلَ النَّاسِ عَفْواً وَصَفْحاً، رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ مُنْتَصِرًا مِنْ مَظْلَمَةٍ ظُلِمَهَا قَطُّ مَا لَمْ تُنْتَهَكْ مَحَارِمُ اللهِ، فَإِذَا اُنْتُهِكَ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ شَيْءٌ كَانَ أَشَدَّهُمْ فِي ذَلِكَ غَضَبًا...
وَمِنْ أَرْوَعِ مَوَاقِفِهِ ﷺ فِي الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ مَوْقِفُهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَقَدْ دَخَلَ ﷺ مَكَّةَ دُخُولَ مَنْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَلَمْ يَدْخُلْ دُخُولَ الْمُنْتَصِرِينَ الْجَبَّارِينَ، وَلَمْ يَبْطِشْ وَلَمْ يَنْتَقِمْ مِنْ أَعْدَائِهِ الذِينَ أَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَآذَوْهُمْ وَقَاتَلُوهُمْ، بَل قَابَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِعَفْوٍ جَمِيلٍ، فَقَالَ لَهُمْ ﷺ قَوْلَتَهُ الشَّهِيرَةَ: مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمُ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، فَقَالَ: أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ: قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. اِذْهَبُواْ فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ. فَكَانَ مِنْ أَثَرِ عَفْوِهِ ﷺ إِنْ دَخَلَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي دَيْنِ اللَّهِ طَوَاعِيَةً وَاخْتِيَاراً، وَبِدُخُولِ مَكَّةَ تَحْتَ رَايَةِ الْإِسْلَامِ دَخَلَ النَّاسُ فِي دَيْنِ اللَّهِ أَفْوَاجًا.
نَفَعَنِي اللَّـهُ وَإِيَّاكُمْ بِكِتَابِهِ الْـمُبينِ، وَبِسُنَّةِ نَبيِّهِ الْمُصْطَفَى الْكَرِيمِ، وَجَعَلَنِـي وَإِيَّاكُمْ مِنَ الذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ آمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْـحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمينَ.
اَلْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
اَلْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَليُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرينَ، صَلَّى اللَّـهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَمَنِ اقْتَفَى أَثَرَهُمْ وَسَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ فَيَا أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْمُسْلِمُونَ:
الْعُنْصُرُ الثَّالِثُ: أَثَرُ الْعَفْوِ عَلَى النَّفْسِ، اِعْلَمُواْ – أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْمُسْلِمُونَ - أَنَّهُ لَا عَافِيَةَ وَلَا رَاحَةَ وَلَا سَعَادَةَ إِلَّا بِسَلَامَةِ الْقَلْبِ مِنْ وَسَاوِسِ الضَّغِينَةِ، وَنِيرَانِ الْحِقْدِ وَالْعَدَاوَةِ، وَمَنْ أَمْسَكَ فِي قَلْبِهِ الْعَدَاوَةَ، وَتَرَبَّصَ الْفُرْصَةَ لِلِانْتِقَامِ، وَأَضْمَرَ الشَّرَّ لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ، تَكَدَّرَ عَيْشُهُ، وَاضْطَرَبَتْ نَفْسُهُ، وَوَهَنَ جَسَدُهُ،
لِذَلِكَ يَنْبَغِي عَلَيْكَ – أَيُّهَا الْمُسْلِمُ - أَنْ تَتَرَفَّعَ عَنْ حُبِّ الثَّأْرِ وَالِانْتِقَامِ، وَأَن تَتَخَلَّقَ بِخُلُقِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ اقْتِدَاءً بِخَيْرِ الْأَنَامِ، عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى السَّلَامِ، لَيْسَ مِنْ أَجْلِ شَيْءٍ خَارِجِيٍ عَنْكَ، بَلْ مِنْ أَجَلِكَ أَنْتَ شَخْصِياً، مِنْ أَجْلِ أَنْ تَنَالَ رِضَى رَبِّكِ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ تُحَافِظَ عَلَى صِحَّتِكَ النَّفْسِيَّةِ عُمُوماً، فَصَاحِبُ الْعَفْوِ يَنَامُ عَلَى فِرَاشِهِ بِاللَّيْل هَادِئاً مُطْمَئِناً، وَأَمَّا مَنِ انْتَصَرَ لِنَفْسِهِ وَانْتَقَمَ لَهَا فَإِنَّهُ يَبِيتُ مُضْطَرِبًا قَلِقًا تُرَاوِدُهُ الْهُمُومُ وَالْهَوَاجِسُ، لَعَلَّهُ قَدْ تَجاوَزَ الْحَدَّ وَاعْتَدَى، فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي عَفَوْتُ وَتَجَاوَزْتُ وَمَا انْتَقَمْتُ، وَرَحِمَ اللَّهُ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ إِذْ يَقُولُ:
لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ *** أَرَحْتُ نَفْسِيَ مِنْ هَمِّ الْعَدَاوَاتِ.
🍀اَلــــدُّعَــــــــاءُ:...🍀
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
نسعد بتعليقاتكم ومقترحاتم تهمنا