حكم شرب الماء للخطيب والمستمع لخطبة الجمعة
من إعداد فضيلة الفقيه عبدالله بنطاهر
هل يجوز للخطيب أن يشرب الماء أثناء الخطبة على المنبر؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه ورشده.
وبعد؛ فقد طرح الفقيه الجليل الأستاذ سيدي حسن بنعامر خطيب مسجد المختار السوسي بالحي المحمدي بأكادير في مجموعة "نفحات من الفقه المالكي" سؤالا هذا نصه:
"السلام عليكم ورحمة الله، سيدي الحاج عبد الله، السادة أعضاء هذا الرابط المفيد...؛ أثناء الخطبة ألمت نوبة من السعال بالخطيب اضطر معها إلى تناول شربة من الماء ثم أكمل خطبته؛ ما حكم فعله هذا داخل المذهب؟ أريد جوابا مفصلا ومؤصلا بارك الله فيكم ونفع بكم؟ بحثت فلم أجد من تكلم عن حكم شرب الخطيب للماء أثناء الخطبة؛ كل ما وقفت عليه بحسب اطلاعي المحدود هو كلام عن المخاطبين. وجزاكم الله خيرا".
الجواب والله الموفق للصواب:
● أولا: نعم؛ أغلب الفقهاء لا يذكرون إلا حكم شرب المستمع؛ ولكن الذي يبدو لي أن حكم الخطيب والمستمع في هذه المسألة سواء؛ وهذا ما يفهم من كلام الإمام المازري حيث قال في شرح التلقين: "وأما شرب الماء حينئذ؛ فقال في مختصر ابن شعبان: إذا جلس الإِمام على المنبر فلا يشرب ماء وإن لم يكن خطب، ولا ينبغي لمن فيه أن يفعل..."(1)؛ أي: لا يشرب الخطيب الماء ولا ينبغي كذلك لمن في المسجد من المستمعين أن يفعل ذلك؛ بل قد صرح بذلك النووي في حكم مخالف حيث قال: "ولا بأس يشربه للعطش للقوم والخطيب"(2).
● ثانيا: يجب أن نفرق في هذه المسألة بين ثلاث حالات: الشرب اختيارا للتلذذ، والشرب اختيارا للعطش الممكن تحمله، والشرب اضطرارا للعطش غير الممكن تحمله أوللشَّرَق والغصة.
• الحالة الأولى: الشرب اختيارا للتلذذ: فيها أربعة أقوال:
القول الأول: عند المالكية الشرب حرام والجمعة صححية بيد أنها ناقصة؛ قال العدوي المالكي: "والحاصل أنه يحرم كل ما ينافي وجوب الإنصات...؛ من أكل وشرب وتحريك شيء يحصل منه تصويت كورق أو ثوب أو فتح باب أو سبحة أو مطالعة في كراس"(3)؛ واستدلوا بدليلين:
1) قياس الشرب على اللغو؛ ففي الحديث الصحيح: أن رسول اللهﷺ قال: «إذا قلتَ لصاحبك يوم الجمعة: أنصِتْ والإمام يخطُب فقد لَغوْت»(4)؛ وفي حديث أبي داود بسند حسن: «ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا»(5)؛ قال ابن وهب وهو أحد رواة الحديث: "معناه أجزأت عنه الصلاة وحُرِمَ فضيلةَ الجمعة"(6)، ونقل ابن حجر أن "معناه لا جمعة له كاملة؛ للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه"(7)؛ وعليه فمن شرب فقد لغا وجمعته صحيحة ناقصة.
2) بناء على القول باعتبار الخطبتين أقيمتا مقام الركعتين فكانتا بدلهما(8)؛ ولهذا اشترطوا الطهارة ودخول الوقت فيهما؛ فقالوا: إذا خطب الإمام قبل الزوال وصلى بعده أعاد الصلاة والخطبة، وإذا خطب جُنُباً أعادوا الصلاة أبدا(9)؛ إلا أنهم قالوا بحرمة الكلام والأكل والشرب من غير بطلان الجمعة.
القول الثاني: عند الشافعية والحنابلة الشرب مكروه؛ قال النووي: "يكره شرب الماء للتلذذ(10)، وقال المرداوي: "يكره ما لم يشتد عطشه"(11).
القول الثالث: قال الأوزعي: من شرب أثناء الخطبة بطلت جمعته(12)؛ ولعل هذا منه بناء على القول باعتبار الخطبتين أقيمتا مقام الركعتين كما سبق؛ ولكن بعض العلماء اعتبر هذا منه إفراطا؛ بل قال البعض ومنهم أبو الحسن العبدري الشافعي بأنه خالف الإجماع(13).
القول الرابع: قال ابن المنذر: رخص فيه من كبار أئمة التابعين مجاهد بن جبر المكي، وطاوس بن كيسان اليماني؛ ولا بأس به؛ إذ لا نعلم حجة لمن منعه(14)، وهو مذهب الظاهرية؛ قال به أبو سليمان داود وابن حزم الظاهريان(15).
• الحالة الثانية: الشرب اختيارا للعطش الممكن تحمله: فيها أيضا أربعة أقوال مثل الحالة الأولى ولم يختلف فيها إلا قول الشافيعة؛ حيث قالوا: لا بأس؛ يجوز شربه للعطش(16).
• الحالة الثالثة: الشرب اضطرارا: إما لشدة العطش الذي لا يحتمل، أو للتوقف بشَرَق وغُصَّة يمنعه من الكلام أو يصعب عليه، ولم يستطع الاسترسال إلا بتلطيف حلقه بشربة ماء، أو كان من عادته وطبيعته أن يقع له ذلك؛ فشربه في هذه الحالة جائز بل أولى(17)؛ بل هو واجب، ولا ينبغي أن يكون فيه الخلاف؛ لأنه إذا جاز شرب الخمر لإساغة الغصة عند عدم وجود غيره(18) -في أي مكان حتى لا يقول البعض: إن خطبة الجمعة والخمر لا يجتمعان- وهو الحرام المتفق عليه؛ فمن باب أولى وأحرى شرب الماء الحلال أثناء الخطبة للسبب نفسه وهو أمر مختلف فيه.
● الخلاصة والنتيجة: في المذهب المالكي؛ الشرب بغير ضرورة بعد خروج الخطيب وفي أثناء الخطبة حرام مع صحة الجمعة ونقصانها في الأجر، على غرار قاعدة: "وعصى وصحت""(19) والخطيب والمستمع في ذلك سواء؛ لأن الشرب نوع من اللغو المنهي عنه، ولأن الخطبتين أقيمتا مقام الركعتين.
أما إن كان للضرورة؛ مثل توقف الخطيب عن الكلام بسبب شرَق أو غصة لايستطع معها الاسترسال إلا بتناول شربة ماء؛ فهو جائز لقاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات".
ولم يقل بالجواز مطلقا من غير ضرورة إلا قلة من العلماء منهم: مجاهد، وطاوس، وابن المنذر، وداود، وابن حزم الظاهريان؛ وعليه فمن اتخذ ذلك عادة -كما يفعل بعض الخطباء-، كلما صعد المنبر أحضر معه قنينة الماء من غير ضرورة ولا ضرر؛ فقد خالف الجمهور، وترك الراجح والمشهور.
والله أعلم وهو سبحانه الموفق للصواب.
● المراجع:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح التلقين للمازري: (1/1006).
(2) المجموع شرح المهذب للنووي: (4/529).
(3) حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني: (1/378).
(4) موطأ مالك: كتاب الجمعة: باب ما جاء في الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب: (رقم342)، وصحيح البخاري: كتاب الجمعة: باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب: (رقم934)، وصحيح مسلم كتاب الجمعة: باب في الإنصات يوم الجمعة في الخطبة: (رقم851).
(5) سنن أبي داود: كتاب الصلاة: باب في الغسل يوم الجمعة: (رقم347).
(6) فتح الباري لابن حجر: (2/414).
(7) المصدر نفسه.
(8) شرح التلقين للمازري: (1/ 979 و982)، والمجموع للنووي: (4/507)، والمغني لابن قدامة: (2/225).
(9) شرح التلقين للمازري: (1/ 979).
(10) المجموع شرح المهذب للنووي الشافعي: (4/529).
(11) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي الحنبلي: (2/419).
(12) الإشراف لابن المنذر: (2/105)، وشرح التلقين للمازري: (1/1006)، والمجموع للنووي: (4/529).
(13) شرح التلقين للمازري: (1/1006)، والمجموع للنووي: (4/529).
(14) الإشراف لابن المنذر: (2/105)، والمجموع للنووي: (4/529).
(15) المحلى بالآثار لابن حزم: (3/274 و275).
(16) المجموع شرح المهذب للنووي الشافعي: (4/529).
(17) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي: (2/419).
(18) الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي: (4/352).
(19) قاعدة فقهية من نص مختصر خليل يقصد بها كل من صلى وهو متلبس بحرام؛ كلباس الحرير والذهب والثوب المسروق. انظر: منح الجليل شرح المختصر لعليش: (1/228).
خادمكم عبد الله بنطاهر السوسي التناني
يوم الجمعة الأربعاء 21 رجب 1442هـ 5 / 3 / 2021م
مسجد الإمام البخاري عمالة أكادير إداوتنان
جنوب المملكة المغربية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
نسعد بتعليقاتكم ومقترحاتم تهمنا