خطبة الجمعة حول قصة حديث «أَوَّهْ أَوَّهْ عين الربا عين الربا. - أئمة مروك -->
أحدث المواضيع
انتظار..

خطبة الجمعة حول قصة حديث «أَوَّهْ أَوَّهْ عين الربا عين الربا.


فضيلة الفقيه السوسي : عبد الله بنطاهر
الحمد لله الذي أنعم بالحلال من المال هنيئا لمن تمسك به وطوبى، وويل لمن كفر بالنعمة فتنجس بالحرام فأربى، له سبحانه وتعالى حتى يرضى الشكر والعتبى، وأشهد أن لا إله إلا الله حرم أكل أموال الناس بالباطل والربا، وأمر بالإحسان للفقراء والمحتاجين وذوي القربى، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله سيد النجباء، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه من له في الثواب خير الجزاء وأفضل العقبى، وعلى التابعين لهم بإحسان ما دام التبليغ يجري على لسان العلماء والخطباء...

أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
قدمنا لكم في سلسلة من الخطبة في إطار توظيف السيرة النبوية في عملية الإصلاح قصصا من سيرة المصطفىﷺ:
ففي جمعة ما قبل الماضية كنا مع قصة قطعت دابر الرشوة والارتشاء؛ وذلك حين رجع أحد عماله الذين أرسلهم لجمع الزكوات واسمه عبد الله بن اللتبية؛ فبدأ يقول: "هذا من الزكاة وهذا هدية لي" فقال له النبيﷺ: «أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا؟»...

وفي الجمعة الماضية كنا مع قصة أخرى قطعت دابر الغش، وذلك حين تبرأ النبيﷺ من كل غشاش فقال: «من غشنا فليس منا»، ولا يوجد شيء تقشعر منه جلود المؤمنين مثل قول النبيﷺ في شيء: «ليس منا».
فتعالوا بنا اليوم نكشف الستار عن قصة أخرى نصلح بها ظاهرة أخرى منتشرة فينا ومتجذرة في معاملاتنا؛ 

فحطمت ميزانيات الأفراد والشركات؛ بل حطمت ميزانيات الدول والشعوب؛ مضمون هذه القصة فيما روى البخاري ومسلم: أن سيدنا بلالا رضي الله عنه ذات يوم أراد أن يقدم للنبيﷺ طعاما، فلم يجد في بيتهﷺ إلا تمرا رديئا لا يستحق أن يقدم للحبيبﷺ، فطرأت في دهنه فكرة استبدال هذا التمر الرديء مقابل تمر جيد يصلح ليقدم طعاما للحبيبﷺ، وفورا ذهب إلى السوق فدفع صاعين من التمر الرديء مقابل صاع واحد من تمر جيد، (والصاع هو أربعة أمداد بمد اليد)؛ فرجع إلى منزل النبيﷺ وكله فرح وسرور حين وجد في نظره لهذا المشكل حلا، فقد وجد تمرا أجود يليق بالمقام النبوي، فوضعه طعاما للرسولﷺ؛ والرسولﷺ ما كان ليأكل شيئا أو يأخذ شيئا حتى يعرف مصدره؛ أمن الحلال هو فيَقْبَل به ويُقْبِل عليه، أو هو من الحرام فيَقْلِبه رأسا على عقب وينقلب عنه، وقد كان من دعائهﷺ: «الله اكفنا بحلالك عن حرامك»، أما نحن اليوم فالحلال هو ما حل بأيدينا، ودعاء لسان حالنا: اللهم اغننا بحلالك وحرامك نعوذ بالله.

لما رأىﷺ هذا التمر الجيد وهو يعلم أنه ليس بالمنزل إلا التمر الرديء سأل بلالا: (من أين لك هذا؟) جملة صعبة تقشعر منها جلود السارقين والغشاشين والمختلسين والغالّين على امتداد التاريخ (من أين لك هذا؟) لو سئل الكثير منا اليوم هذا السؤال فلن يبقى لنا شيئا؛ فقال سيدنا بلال رضي الله عنه جوابا على السؤال الصعب معللا وموضحا السبب: «كان عندنا تمر رَدِيءٌ، فبعتُ منه صاعين بصاع لِمَطْعَمِ النبيﷺ، فقال النبيﷺ عند ذلك رافعا صوته: «أوَّهْ أوَّهْ، عَيْنُ الرِّبَا، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردتَ أن تشتريَ فبِعِ التمر بيعا آخر، ثم اشترِ به».

وكلمة «أوَّهْ أوَّهْ»: يقولها الإنسان عندما يشتكي ويتألم ويتحذر، أو يخالف متوجسا من خطر؛ وهذا الحديث يدل على أن المسلم إذا أراد أن يستبدل شيئا بشيء هو نفسه؛ مثلا: تمرا بتمرا، أو شعيرا بشعير، أو دقيقا بدقيق، أو ذهبا بذهب، أو فضة بفضة، أو دراهم بدراهم، أو عملة "الأورو" بعملة "الأورو"؛ فيجب في هذه العملية أمران: أن يكون الاستبدال يدا بيد من غير تأخير ولا تأجيل، وأن يكون مثلا بمثل من غير زيادة ولا نقصان؛ وإلا وقع في الربا؛ ربا النسيئة والتأخير، أو ربا الفضل والزيادة، والحل لمن أراد أن يستبدل شيئا بمثله مثلا: ذهبا بذهب أن يبيع الذهب الأول، ثم يشتري بثمنه ذهبا آخر.

ويدخل في هذا على المذهب المالكي كل ما يقتات ويدخر من المواد الغذائية، بحيث لا يجوز استبدال بعضها ببعض إلا مثلا بمثل يدا بيد؛ كما يدخل فيه أيضا ما يسمى بالقرض والسلف بفائدة، بحيث يتسلم المسلم شيئا من عملة الدرهم ليردها بالزيادة؛ فهذا لا تجوز إلا للضرورة القصوى؛ ولكن إذا اختلفت الأجناس وتنوعت الأصناف فيجوز العوض بالزيادة حسب سعر الأسواق؛ مثلا استبدال شعير بذهب، أو ذهب بعملة الدرهم، أو عملة الدرهم بعملة "الأورو" مثلا؛ فهذه ليست زيادتها من الربا إذا كانت يدا بيد من غير تأخير ولا تأجيل. 

وأصل هذا قول النبيﷺ فيما روى البخاري ومسلم: «الذَّهَبُ بالذهب ربًا، إلا هَاءَ وهَاءَ (أي: خذ وهات)، والبُرُّ بالبُرِّ ربًا، إلا هَاءَ وهَاءَ، والشعير بالشَّعيرِ ربًا، إلا هَاءَ وهَاءَ، والتَّمْرُ بالتَّمْرِ ربًا، إلا هَاءَ وهَاءَ»، وفي رواية: «والملح بالملح، مِثْلاً بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربَى، الآخِذُ والمْعْطِي فيه سواء» وفي رواية: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فَبِيعُوا كيف شِئْتُم إذا كان يدًا بيد».
أيها الإخوة المؤمنون؛ لقد فسر الله تعالى ما يتعلق بالربا أتم التفسير، وحذر من التعامل به أشد التحذير، وتناوله من جميع جوانبه بالتفصيل؛ فأصدر سبحانه وتعالى حكمه الرباني بالتحريم الذي لا يحتمل التأويل:

أولا: بين سبحانه حقيقة الربا وماهيته فقال في سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
ثانيا: بين سبحانه أن الربا من ابتكارات اليهود لأكل أموال الناس بالباطل وهي من عاداتهم السيئة؛ فقال في سورة النساء: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}؛ والواقع اليوم يشهد فما تحكم في أَزِمَّة الأزمات المالية في العالم اليوم إلا أحفادهم.

ثالثا: بين سبحانه خطورة الربا وخسارة صاحبه في الآخرة فقال في سورة البقرة: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}؛ وتفسيرا لهذا رأى الرسولﷺ ليلة الإسراء والمعراج صورة توضح عذاب الذين يتعاملون بالربا يوم القيامة، الذين يمتصون دماء الناس بالديون الربوية المجحفة، رآهم النبيﷺ يسبحون في بحر من الدماء، لأنهم قد امتصوا في الدنيا دماء الناس، بطونهم منتفخة أمثال البيوت، كلما حاول أحدهم القيام سقط، والناس يسحقونهم بأرجلهم، لأنهم كانوا في الدنيا يسحقون قلوب الناس بالربا، والجزاء من جنس العمل.

رابعا: بين سبحانه حكم الربا فقال في سورة البقرة أيضا: {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.

خامسا: بين سبحانه خطورة الربا وخسارة صاحبه في الدنيا فقال في سورة البقرة أيضا: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ}؛ أي خسارة أعظم من أن يكون الإنسان في حرب مع الله تعالى؟! فالحرب من الله سبحانه وتعالى ضد الربا معلنة، وفي صورتها الشاملة الداهمة الغامرة؛ فهي حرب على الأعصاب والقلوب، وحرب على البركة والرخاء، وحرب على السعادة والطمأنينة، وحرب القلق والخوف، وحرب الجفاف والجفاء، وحرب الإرجاف والإرهاب، وحرب الحروب والفتن، وحرب الأمراض والأوجاع، فالله عز وجل ليس في حاجة للجنود ولا للعتاد.

والربا بكل أشكالها وأنواعها جريمة محرمة، أخبر النبيﷺ أن أقلها جرما يعادل جريمة من يزني بأمه، فقالﷺ فيما روى ابن ماجه والحاكم: «الربا اثنان وسبعون بابا [أو حوبا]؛ أدناها [وأيسرها] مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه»؛ ومن أجل هذا أمر النبيﷺ بضرب حصار خانق على الربا، وبقطع جميع العلاقات بالمعاملات الربوية، فحرم كل ما يمت لها بصله؛
أخرج الإمام مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: «لَعَن رسول اللهﷺ آكل الربا وموكله وكاتِبَه وشَاهدَيْهِ هُمْ سَوَاءٌ»؛ 

ولكننا أصبحنا نعيش عصرا لا يعرف في معاملاته إلا الربا وقليل من ينجو، عصرا قال فيه النبيﷺ فيما روى أبو داود: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يَبْقَى أَحَدٌ إِلا أَكَلَ الرِّبَا؛ فَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ بُخَارِهِ» وفي رواية «مِنْ غُبَارِهِ»؛ ومن الوسائل التي تساعد على هذا الانتشار تسمية معاملات الربا بغير أسمائها، يسمونها ربحا وفائدة، حتى أصبحت من الأمور العادية التي لا تشعر بعقوبة، فيسمون القروض الربوية بـ"القروض العادية"، والقروض الإسلامية بـ"القروض البديلة"،

وهذا عادة المرجفين في وسائل الإعلام المختلفة؛ فقد استطاعوا بمكرهم، أن يظهروا المعروف في صورة المنكر، والمنكر في صورة المعروف؛ فتراهم يسمون المحرمات بغير اسمها، ويطلقون عليها أسماء خداعة وجذابة، تبعا لمصالحهم المفسدة، فتجدهم مثلا -كما يعلنون أن الربا فائدة- يعلنون أن الرشوة هدية وأن الخمر مشروبات روحية، وأن الغش والكذب دبلوماسية، وأن النفاق مجاملة، وأن الرقص والخلاعة فن وموهبة، وأن الْـمَغْنَى حياة الروح، وأن التبرج والتهتك تقدم وحضارة، وأن الحجاب والعفة والحشمة تأخر ورجعية، وأن الزنا حرية شخصية، فساعدهم ذلك على نشر أباطيلهم وضلالهم، فاختلطت المفاهيم، واختلت الموازين، وتبدلت المعاير، والتبس على الناس أمر الحلال والحرام...

والآن تعلمون المصيبة التي يشتكي منها النبيﷺ فيتألم؟ والخطر الذي يخاف منه فيتأوه؟ «أوَّهْ أوَّهْ عين الربا عين الربا».
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين 
والحمد لله رب العالمين...


الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ هناك قصة يتداولها الناس فيما بينهم، قصةٌ قد تكون صحيحة في الواقع، وقد تكون مجرد حكاية، يقال: بأن أحدهم أراد أن يأخذ قرضا من أحد البنوك، فصار الموظف يسأله عن الوثائق المطلوبة لاستكمال ملفه، فسأله عن وثيقة السوابق العدلية قائلا: هل دخلت السجن يوما؟ فأجاب الذي يطلب القرض: لا؛ يا سيدي، إنما أهيئ له نفسي واستعد له، وهذا هو ملفه، بمعنى أن ملف القرض هو نفسه الملف الذي سيؤدي به إلى السجن...

فهذه القصة وإن كانت مجرد حكاية إلا أنها تدل على أن من يتعامل بالربا لا بد يوما ما يدفع الثمن؛ وهذا الواقع المرير، يشهد على ما سبق وأكثر بكثير؛ فكثيرا ما شتت القروض الربوية من دول! وكثيرا ما سجنت من رجال! وكثيرا ما حطمت من أعمال! وكثيرا ما خيبت من آمال! فكم في السجون من ضحاياها! أصحاب الشيكات بدون رصيد، وأصحاب الديون الربوية بدون تسديد؛ أتدرون لماذا؟ لأن من تعامل بالربا قد أعلن الحرب ضد الله تعالى، ومعلوم مسبقا من المهزوم الهالك في هذه الحرب المعلنة، لأن من حارب الله، فهو المهزوم في الدنيا، المخذول في الآخرة... «أوَّهْ أوَّهْ عين الربا عين الربا».
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نسعد بتعليقاتكم ومقترحاتم تهمنا