خطبة جمعة ـ لمحات في السيرة:غزوة ذات الرقاع والمحافظة على الصلاة
خطيب جمعة بأكادير.../ ..:سيدي عبد الله بن طاهر
ـ جزاه الله عنا وعن المسلمين خيرا
الموضوع: غزوة ذات الرقاع والمحافظة على الصلاة
في إطار توظيف السيرة النبوية في عملية الإصلاح
28 ربيع الأخير 1435 هـ 2/28/ 2014 م
في إطار توظيف السيرة النبوية في عملية الإصلاح
28 ربيع الأخير 1435 هـ 2/28/ 2014 م
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
هذه خطبة بالمناسَبة، لعلها تكون مناسِبة لمن أحب أن يستأنس بها، أو يوظفها بعد أن ينظفها، فينقحها من أخطائي ليلقحها بأفكاره والرجاء منه أمران:
1) الدعاء لي -بعد الإخلاص- عن ظهر الغيب.
2) غض البصر -بعد الإصلاح- عما فيها من العيب.
الحمد لله الذي جعل سيرة المصطفىﷺ بإسعاد الإنسان أحرى وأجدر،
وأشهد أن لا إله إلا الله فرض الصلاة على المؤمنين كتابا موقوتا لضبط الوقت أيسر وأقدر، وأشهد أن سيدنا محمدا أرسله الله إلى الناس فبشر وأنذر، فبشر من حافظ على الصلاة بجزاء أعظم وأوفر، وأنذر من ضيعها بعذاب أشد وأخطر، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا جهادا أجل وأكبر، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى أن يلقى الناس البعث والمحشر.
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
قد كان من عادتي من فوق هذا المنبر المبارك منذ ربع قرن أن أقدم لكم في كل شهر خطبة مناسبة له من سيرة الرسولﷺ؛ نستطلع أسرارها، نستكشف مكامنها؛ لأنها التطبيق المثالي للقرآن، والترجمة العملية لتعاليم الإسلام.
دعونا اليوم في إطار توظيف السيرة النبوية في عملية الإصلاح نطل بكم من خلال هذا الشهر، شهر ربيع الأخير ونحن في أواخره، على غزوة وقعت فيه قادها النبيﷺ في السنة الرابعة من الهجرة تسمى بغزوة ذات الرقاع؛ وسميت بهذا الاسم؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين مشوا فيها مسافة بعيدا، من المدينة إلى قبيلة غطفان في نجد، التي حشدت قوتها للهجوم على المدينة، لقد قطعوا أزيد من سبعمائة كيلو مترا، حتى تقطعت نعالهم الجلدية، وآذى الحر الشديد أقدامهم الحافية، فبدأوا يرقعونها بخرق الأثواب ورقاعها، فسُجِّلت هذه الغزوة في التاريخ بهذا الاسم، "ذات الرقاع".
أيها الإخوة المؤمنون؛ إن استدعاء عملية الإصلاح يدل على أن هنا فسادا مستشريا في المجتمع، مطلوبا إصلاحه من خلال السيرة النبوية؛ ومن هذا الفساد تضييع الصلوات؛ إما بتركها رأسا، أو بالإخلال بشروطها وأركانها، أو بتأخيرها عن وقتها؛ الشيء الذي يتطلب منا الدعوة إلى إصلاح حالـها، والبحث في السيرة النوبية عن حل لها؛ لقد زينا الشيطان لنا أعمالنا، فقبعنا في منازلنا، تلهينا وسائل الإعلام بفسقها عن ذكر الله وعن الصلاة؛ فمنا من يكتفي بالصلاة وحده، ومنا من لا يصلي إلا يوم الجمعة والعيدين، ومنا من لا يصلي إلا في رمضان؛ ومنا من تؤخره عن الصلاة تجارته أو وظيفته أو اجتماعه؛ والله تعالى يقول في المنافقين: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا}؛ إن المنافقين أيضا يصلون ولكنهم كسالى: يصلون الفجر مع طلوع الشمس، والظهر والعصر مع الغروب، والمغرب والعشاء بعد منتصف الليل، وبعد الانتهاء من برامج الويل، في وسائل الإعلام من الفضائيات والمواقع التي في الواقع لا تنتهي، من نشرات الأخبار، إلى أفلام الفجور، إلى الكميرات الخفية، وما خفي من الفساد أعظم، يتفرج فيمن سيربح ومن سيخسر في مقابلات "برسوية" صهيونية، ولم يدر المسكين أنه من أكبر الخاسرين، والرسولﷺ يقول: «أثقل صلاة على المنافقين صلاة الفجر والعشاء» ويقولﷺ فيمن يؤخر صلاة العصر عن وقتها: «تلك صلاة المنافق؛ يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقرها أربعا، لا يذكر الله إلا قليلا»...
إذن تضييع الصلوات فساد؛ فمن ابتلى به فعليه بالبحث عن الإصلاح لنفسه؛ وإذا أردت -أخي المسلم- الإصلاح فلا بد من القيام بالخطوات التالية:
أولا: استشعار اللقاء مع الله تعالى، هذا الاستشعار هو الذي يزود قلبك بمادة الخشوع التي يجعل الصلاة مهما ثقلت على الجسد خفيفة على القلب يقول الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} ويقول سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}؛ وقد أصبحت الصلاة عندنا عادة لا عبادة، نصلي بأجسامنا وأعضائنا، ننحني بظهورنا راكعين ونخر للأذقان ساجدين، ولكن قلوبنا لا تتحرك نحو رب العالمين، ونفوسنا لا تستشعر خوف الله وعظمته، نقرأ القرآن في الصلاة ولكن لا نتدبره، ونسبح ولكن لا نفقه تسبيحنا، نقف أمام شعائر الصلاة ولكننا في الحقيقة واقفون أمام مشاريعنا، أجسامنا في بيوت الله ولكن قلوبنا في بيوتنا ومعاملنا، نذكر الباقيات الصالحات ولكن أرواحنا عند زينة الحياة الدنيا، فالأفكار الدنيوية تتزاحم أثناء الصلاة علينا، والأشرطة تمر بسرعة في أذهاننا، فنتذكر كل شيء إلا شيئا واحدا هو أننا الصلاة، فكنا كما قال القائل:
فكم مِن مُصَلٍّ ماله مِن صَلاته *** سِوَى رُؤية المِحراب والخَفض والرّفع
تراهُ على سَطح الحَصيـــرة قائما *** وهِمّتــــهُ فِي السُّوق فِي الأخذ والدّفع
لو أن أحدنا وقف أمام أمير من أمراء الدنيا لخضع وخشع، ولحضر بكيانه كله، مستجمعا قلبه لامتثال أوامره ونواهيه، وبالإشارة قبل العبارة، ولكنه إذا وقف أمام ملك الملوك، يلهو قلبه عن الحضور والخشوع، وإنها لمفارقة غريبة!
ثانيا: استحضار الثواب؛ وهذا الاستحضار -أخي المسلم- هو الذي يعينك على استشعار الخشوع؛ فالثواب الذي اذخره الله تعالى لمن يحافظ على الصلوات يتمثل في أمرين: محو السيئات، ورفع الدرجات؛ قال رسول اللهﷺ: «صلاة الرجل في جماعة تضعف (تزيد) على صلاته في بيته، وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه ما لم يحدث، اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة»؛ وقالﷺ: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله؛ قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط! فذلكم الرباط! فذلكم الرباط!»؛
ثالثا: محبة الصلاة؛ فإذا كان استحضارك لهذا الثواب صادقا فإن ذلك سيدفعك إلى المحبة، وإذا أردت تحقيق المحافظة على الصلاة يجب أن تجعلها قرة عينك؛ كما قال المصطفىﷺ: «وجعلت قرة عين لي في الصلاة»؛ والإنسان عادة لا يضيع ما يحب ولا يجافي من يحب، ولا يمكن المحافظة على الصلاة دون محبتها.
رابعا: اجتناب أصدقاء السوء؛ فإذا كانت محبتك صادقة فسوف تدفع أنت عن نفسك أصدقاء السوء الذين يحولون بينك وبين المحافظة على الصلوات في وقتها؛ سواء كانوا أصدقاء ذاتيين وواقعيين في المقاهي، أو فرضيين مَوْقِعِيِّين في ملاهي المواقع الاجتماعية في الأنترنيت ؛ فالصحبة الطيبة سواء في الواقع أو في المواقع هي زاد الدنيا والآخرة؛ لأن الصاحب (بالصاد) ساحب (بالسين)؛ فإما أن يصاحبك إلى الجنة، وإما أن يسحبك إلى النار نعوذ بالله؛ يقول الله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} ويقول الرسولﷺ: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل».
خامسا: تذكر عقوبة إضاعة الصلاة؛ فإذا علمت أن الصحبة الـمُضِلَّة في الدنيا تسحبك إلى العقوبة الـمُذِلَّة في الآخرة فيجب أن تضع نصب عينك دائما هذه العقوبة؛ ويكفي أن تعلم أن الله تعالى ذكر في القرآن الكريم أن في جهنم ثلاثة أودية: وادي الغَىِّ، ووادي الويل، ووادي سقر:
فوادي الغى هو من نصيب من يؤخر الصلاة عن وقتها قال الله تعالى فيه: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً}، وهو وادٍ حتى جهنمُ نفسُها تستعيذ بالله من شدة حرارته.
ووادى الويل هو من نصيب من يسهو عن الصلاة فيضيع شروطها وأركانها؛ قال الله تعالى فيه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}.
ووادي سقر هو لتارك الصلاة رأسا؛ قال تعالى فيه: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}، ومن لا يعرف سقر فليقرأ قوله سبحانه: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ}.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين…
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون؛ لعلكم الآن تسألون: ما علاقة إصلاح ما فسد من صلواتنا بالترك أو بالإخلال أو بالتأخير بغزوة ذات الرقاع التي ذكرناها في بداية الخطبة؟ وكيف نوظف السيرة النبوية هنا في عملية الإصلاح؟
نعم أيها الإخوة في الله؛ لما وصل الصحابة المكان المقصود في هذه الغزوة وجدوا الكفار قد تهيئوا واستعدوا للمواجهة، فلم يقع بينهم حرب، وإنما تربص كل فريق منهم بالآخر، وانتظر كل فريق الفرصة السانحة للانقضاض على عدوه، وأثناء هذا الانتظار اتفق الكفار على الهجوم على المسلمين بغتة إذا كانوا في صلاة العصر؛ لأنهم يعلمون أن المسلم لا يجوز له إخراج الصلاة عن وقتها، فنزل جبريل فأخبر النبيﷺ بخطة الكفار الجبانة.
فما ذا فعل الرسولﷺ؟ هل قال للصحابة: أنتم اليوم لا صلاة عليكم لأنكم في الجهاد؟ أو قال لهم أخروها إلى المساء وصلوها مجتمعة مع غيرها؟ لو كان واحد منا اليوم حدث له مثل هذا، أو أقل من هذا؛ بل مجرد خدمة وعمل؛ بل مجرد الجلوس أمام الشاشة، لضرب بالصلاة وأوقاتها عُرض الحائط!! ولكن النبيﷺ عند ما علم بخطة الكفار الغادرة، صلى بالناس صلاة الخوف.
أتدرون ما صلاة الخوف؟ إن النبيﷺ قسم الجيش إلى طائفتين: طائفة تصلي بالنبيﷺ، وطائفة في حراسة، فلما صلىﷺ نصف الصلاة جلس، وأتم من وراءه الصلاة فذهبوا إلى مواقعهم، وجاءت الطائفة الأخرى فصلت بالنبيﷺ بقية الصلاة؛ يقول الله تعالى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً}، هذه هي صلاة الخوف إذا لم يباغت العدو المسلمين، أما إذا كتف العدو الهجوم من كل جانب، فيقول الله تعالى عندئذ: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}، يصليها المسلم بالإشارة أثناء القتال وهو يركب دابته، أو يقود دبابته، أو يحمل رشاشا، أو يقود طائرة، ويصليها المريض في سريره، والمسافر على مركبه. والطبيب وهو يقوم بعملية جراحية معقدة، ولو كان للمسلم عذر في ترك الصلاة لكان الأولى به المجاهد الذي يضحي بنفسه وماله؛ فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الصلاة لا يجوز بحال من الأحوال إخراجها عن وقتها، ولا عذر لمسلم في ذلك.
وقد استشعر السلف الصالح أهمية هذا الأمر، فحملوا هموم المحافظة على الصلاة حتى وهم يفارقون الحياة؛ فهذا عمر رضي الله عنه لما طعنه اللعين أبو لؤلؤة، بسيف مسموم فقطع أمعاءه، وهو راكع في صلاة الفجر، فاتته ركعة واحدة، لأن النزيف الدموي غلبه حتى خر مغشيا عليه، فلما أفاق سأل هل صليت؟ قالوا: بقيت عليك ركعة واحدة يا أمير المؤمنين فقام يقضيها فأغمي عليه، ثم قام فأغمي عليه، وهكذا حتى أتم الركعة فقال: "الحمد لله الذي أعانني على الصلاة" وهو الذي قال في وصيته لجيشه الفاتح: "اللـهَ اللـهَ في الصلاة فإنكم إنما تهزمون بالمعاصي". وروى الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: «...ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتي به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف».
وقد كانت آخر وصية للرسولﷺ وهو في سكرات الموت: «الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم» وهو الذي قال فيما روى الطبراني: «لا دين لمن لا صلاة له، إنما موضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد»؛ يقول الله تعالى: {فَإِذَا اطْمَانَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}، ويقول سبحانه: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون}.
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة و السلام على رسول اللهﷺ...
وأشهد أن لا إله إلا الله فرض الصلاة على المؤمنين كتابا موقوتا لضبط الوقت أيسر وأقدر، وأشهد أن سيدنا محمدا أرسله الله إلى الناس فبشر وأنذر، فبشر من حافظ على الصلاة بجزاء أعظم وأوفر، وأنذر من ضيعها بعذاب أشد وأخطر، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا جهادا أجل وأكبر، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى أن يلقى الناس البعث والمحشر.
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
قد كان من عادتي من فوق هذا المنبر المبارك منذ ربع قرن أن أقدم لكم في كل شهر خطبة مناسبة له من سيرة الرسولﷺ؛ نستطلع أسرارها، نستكشف مكامنها؛ لأنها التطبيق المثالي للقرآن، والترجمة العملية لتعاليم الإسلام.
دعونا اليوم في إطار توظيف السيرة النبوية في عملية الإصلاح نطل بكم من خلال هذا الشهر، شهر ربيع الأخير ونحن في أواخره، على غزوة وقعت فيه قادها النبيﷺ في السنة الرابعة من الهجرة تسمى بغزوة ذات الرقاع؛ وسميت بهذا الاسم؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين مشوا فيها مسافة بعيدا، من المدينة إلى قبيلة غطفان في نجد، التي حشدت قوتها للهجوم على المدينة، لقد قطعوا أزيد من سبعمائة كيلو مترا، حتى تقطعت نعالهم الجلدية، وآذى الحر الشديد أقدامهم الحافية، فبدأوا يرقعونها بخرق الأثواب ورقاعها، فسُجِّلت هذه الغزوة في التاريخ بهذا الاسم، "ذات الرقاع".
أيها الإخوة المؤمنون؛ إن استدعاء عملية الإصلاح يدل على أن هنا فسادا مستشريا في المجتمع، مطلوبا إصلاحه من خلال السيرة النبوية؛ ومن هذا الفساد تضييع الصلوات؛ إما بتركها رأسا، أو بالإخلال بشروطها وأركانها، أو بتأخيرها عن وقتها؛ الشيء الذي يتطلب منا الدعوة إلى إصلاح حالـها، والبحث في السيرة النوبية عن حل لها؛ لقد زينا الشيطان لنا أعمالنا، فقبعنا في منازلنا، تلهينا وسائل الإعلام بفسقها عن ذكر الله وعن الصلاة؛ فمنا من يكتفي بالصلاة وحده، ومنا من لا يصلي إلا يوم الجمعة والعيدين، ومنا من لا يصلي إلا في رمضان؛ ومنا من تؤخره عن الصلاة تجارته أو وظيفته أو اجتماعه؛ والله تعالى يقول في المنافقين: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا}؛ إن المنافقين أيضا يصلون ولكنهم كسالى: يصلون الفجر مع طلوع الشمس، والظهر والعصر مع الغروب، والمغرب والعشاء بعد منتصف الليل، وبعد الانتهاء من برامج الويل، في وسائل الإعلام من الفضائيات والمواقع التي في الواقع لا تنتهي، من نشرات الأخبار، إلى أفلام الفجور، إلى الكميرات الخفية، وما خفي من الفساد أعظم، يتفرج فيمن سيربح ومن سيخسر في مقابلات "برسوية" صهيونية، ولم يدر المسكين أنه من أكبر الخاسرين، والرسولﷺ يقول: «أثقل صلاة على المنافقين صلاة الفجر والعشاء» ويقولﷺ فيمن يؤخر صلاة العصر عن وقتها: «تلك صلاة المنافق؛ يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقرها أربعا، لا يذكر الله إلا قليلا»...
إذن تضييع الصلوات فساد؛ فمن ابتلى به فعليه بالبحث عن الإصلاح لنفسه؛ وإذا أردت -أخي المسلم- الإصلاح فلا بد من القيام بالخطوات التالية:
أولا: استشعار اللقاء مع الله تعالى، هذا الاستشعار هو الذي يزود قلبك بمادة الخشوع التي يجعل الصلاة مهما ثقلت على الجسد خفيفة على القلب يقول الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} ويقول سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}؛ وقد أصبحت الصلاة عندنا عادة لا عبادة، نصلي بأجسامنا وأعضائنا، ننحني بظهورنا راكعين ونخر للأذقان ساجدين، ولكن قلوبنا لا تتحرك نحو رب العالمين، ونفوسنا لا تستشعر خوف الله وعظمته، نقرأ القرآن في الصلاة ولكن لا نتدبره، ونسبح ولكن لا نفقه تسبيحنا، نقف أمام شعائر الصلاة ولكننا في الحقيقة واقفون أمام مشاريعنا، أجسامنا في بيوت الله ولكن قلوبنا في بيوتنا ومعاملنا، نذكر الباقيات الصالحات ولكن أرواحنا عند زينة الحياة الدنيا، فالأفكار الدنيوية تتزاحم أثناء الصلاة علينا، والأشرطة تمر بسرعة في أذهاننا، فنتذكر كل شيء إلا شيئا واحدا هو أننا الصلاة، فكنا كما قال القائل:
فكم مِن مُصَلٍّ ماله مِن صَلاته *** سِوَى رُؤية المِحراب والخَفض والرّفع
تراهُ على سَطح الحَصيـــرة قائما *** وهِمّتــــهُ فِي السُّوق فِي الأخذ والدّفع
لو أن أحدنا وقف أمام أمير من أمراء الدنيا لخضع وخشع، ولحضر بكيانه كله، مستجمعا قلبه لامتثال أوامره ونواهيه، وبالإشارة قبل العبارة، ولكنه إذا وقف أمام ملك الملوك، يلهو قلبه عن الحضور والخشوع، وإنها لمفارقة غريبة!
ثانيا: استحضار الثواب؛ وهذا الاستحضار -أخي المسلم- هو الذي يعينك على استشعار الخشوع؛ فالثواب الذي اذخره الله تعالى لمن يحافظ على الصلوات يتمثل في أمرين: محو السيئات، ورفع الدرجات؛ قال رسول اللهﷺ: «صلاة الرجل في جماعة تضعف (تزيد) على صلاته في بيته، وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه ما لم يحدث، اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة»؛ وقالﷺ: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله؛ قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط! فذلكم الرباط! فذلكم الرباط!»؛
ثالثا: محبة الصلاة؛ فإذا كان استحضارك لهذا الثواب صادقا فإن ذلك سيدفعك إلى المحبة، وإذا أردت تحقيق المحافظة على الصلاة يجب أن تجعلها قرة عينك؛ كما قال المصطفىﷺ: «وجعلت قرة عين لي في الصلاة»؛ والإنسان عادة لا يضيع ما يحب ولا يجافي من يحب، ولا يمكن المحافظة على الصلاة دون محبتها.
رابعا: اجتناب أصدقاء السوء؛ فإذا كانت محبتك صادقة فسوف تدفع أنت عن نفسك أصدقاء السوء الذين يحولون بينك وبين المحافظة على الصلوات في وقتها؛ سواء كانوا أصدقاء ذاتيين وواقعيين في المقاهي، أو فرضيين مَوْقِعِيِّين في ملاهي المواقع الاجتماعية في الأنترنيت ؛ فالصحبة الطيبة سواء في الواقع أو في المواقع هي زاد الدنيا والآخرة؛ لأن الصاحب (بالصاد) ساحب (بالسين)؛ فإما أن يصاحبك إلى الجنة، وإما أن يسحبك إلى النار نعوذ بالله؛ يقول الله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} ويقول الرسولﷺ: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل».
خامسا: تذكر عقوبة إضاعة الصلاة؛ فإذا علمت أن الصحبة الـمُضِلَّة في الدنيا تسحبك إلى العقوبة الـمُذِلَّة في الآخرة فيجب أن تضع نصب عينك دائما هذه العقوبة؛ ويكفي أن تعلم أن الله تعالى ذكر في القرآن الكريم أن في جهنم ثلاثة أودية: وادي الغَىِّ، ووادي الويل، ووادي سقر:
فوادي الغى هو من نصيب من يؤخر الصلاة عن وقتها قال الله تعالى فيه: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً}، وهو وادٍ حتى جهنمُ نفسُها تستعيذ بالله من شدة حرارته.
ووادى الويل هو من نصيب من يسهو عن الصلاة فيضيع شروطها وأركانها؛ قال الله تعالى فيه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}.
ووادي سقر هو لتارك الصلاة رأسا؛ قال تعالى فيه: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}، ومن لا يعرف سقر فليقرأ قوله سبحانه: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ}.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين…
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون؛ لعلكم الآن تسألون: ما علاقة إصلاح ما فسد من صلواتنا بالترك أو بالإخلال أو بالتأخير بغزوة ذات الرقاع التي ذكرناها في بداية الخطبة؟ وكيف نوظف السيرة النبوية هنا في عملية الإصلاح؟
نعم أيها الإخوة في الله؛ لما وصل الصحابة المكان المقصود في هذه الغزوة وجدوا الكفار قد تهيئوا واستعدوا للمواجهة، فلم يقع بينهم حرب، وإنما تربص كل فريق منهم بالآخر، وانتظر كل فريق الفرصة السانحة للانقضاض على عدوه، وأثناء هذا الانتظار اتفق الكفار على الهجوم على المسلمين بغتة إذا كانوا في صلاة العصر؛ لأنهم يعلمون أن المسلم لا يجوز له إخراج الصلاة عن وقتها، فنزل جبريل فأخبر النبيﷺ بخطة الكفار الجبانة.
فما ذا فعل الرسولﷺ؟ هل قال للصحابة: أنتم اليوم لا صلاة عليكم لأنكم في الجهاد؟ أو قال لهم أخروها إلى المساء وصلوها مجتمعة مع غيرها؟ لو كان واحد منا اليوم حدث له مثل هذا، أو أقل من هذا؛ بل مجرد خدمة وعمل؛ بل مجرد الجلوس أمام الشاشة، لضرب بالصلاة وأوقاتها عُرض الحائط!! ولكن النبيﷺ عند ما علم بخطة الكفار الغادرة، صلى بالناس صلاة الخوف.
أتدرون ما صلاة الخوف؟ إن النبيﷺ قسم الجيش إلى طائفتين: طائفة تصلي بالنبيﷺ، وطائفة في حراسة، فلما صلىﷺ نصف الصلاة جلس، وأتم من وراءه الصلاة فذهبوا إلى مواقعهم، وجاءت الطائفة الأخرى فصلت بالنبيﷺ بقية الصلاة؛ يقول الله تعالى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً}، هذه هي صلاة الخوف إذا لم يباغت العدو المسلمين، أما إذا كتف العدو الهجوم من كل جانب، فيقول الله تعالى عندئذ: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}، يصليها المسلم بالإشارة أثناء القتال وهو يركب دابته، أو يقود دبابته، أو يحمل رشاشا، أو يقود طائرة، ويصليها المريض في سريره، والمسافر على مركبه. والطبيب وهو يقوم بعملية جراحية معقدة، ولو كان للمسلم عذر في ترك الصلاة لكان الأولى به المجاهد الذي يضحي بنفسه وماله؛ فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الصلاة لا يجوز بحال من الأحوال إخراجها عن وقتها، ولا عذر لمسلم في ذلك.
وقد استشعر السلف الصالح أهمية هذا الأمر، فحملوا هموم المحافظة على الصلاة حتى وهم يفارقون الحياة؛ فهذا عمر رضي الله عنه لما طعنه اللعين أبو لؤلؤة، بسيف مسموم فقطع أمعاءه، وهو راكع في صلاة الفجر، فاتته ركعة واحدة، لأن النزيف الدموي غلبه حتى خر مغشيا عليه، فلما أفاق سأل هل صليت؟ قالوا: بقيت عليك ركعة واحدة يا أمير المؤمنين فقام يقضيها فأغمي عليه، ثم قام فأغمي عليه، وهكذا حتى أتم الركعة فقال: "الحمد لله الذي أعانني على الصلاة" وهو الذي قال في وصيته لجيشه الفاتح: "اللـهَ اللـهَ في الصلاة فإنكم إنما تهزمون بالمعاصي". وروى الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: «...ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتي به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف».
وقد كانت آخر وصية للرسولﷺ وهو في سكرات الموت: «الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم» وهو الذي قال فيما روى الطبراني: «لا دين لمن لا صلاة له، إنما موضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد»؛ يقول الله تعالى: {فَإِذَا اطْمَانَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}، ويقول سبحانه: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون}.
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة و السلام على رسول اللهﷺ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
نسعد بتعليقاتكم ومقترحاتم تهمنا